تسير الدّكتورة «سلام- سلافة معمار» بأقدام راجفة وبحقيبة، تدرك بحدسها أنّها مملوءة بالمتفجرات، تصل إلى المستشفى الذي تعمل فيه، وتجري اتّصالها الأخير بخاطفي زوجها، مأمون الفرخ، لتتأكد أنّ تنفيذها المهمّة سينقذه حقاً من الموت برصاصهم، تدخل المكان المطلوب لوضع الحقيبة، تتردد وتخبو الأنا الفردي لأجل الجمعي فتتصل بالجهات المعنية وتبلّغ عنها.. وفي اللحظة التي يموت فيها زوجها تكتب الحياة لعشرات وربما مئات المرضى المدنيين الأبرياء، وتبقى وحيدة مع ابنها «رامي» تقاتل الموت حيناً وتنتظره حيناً آخر، لتستعين لاحقاً على أمور حياتها وأمنها بالشّاب «مروان- إيهاب شعبان» شقيق معلمة ابنها «صبا- هيا مرعشلي»، محافظة على مسافة الأمان بينهما، كذلك تفعل «سراب- كاريس بشار» جارها «حسام -عبد المنعم عمايري» زوج صديقتها «نهاد – ندين تحسين بيك»، فبعد أن تنشأ علاقة حبّ بينهما تحاول التراجع خوفاً على مشاعر صديقتها ومشاعر زوجها المغترب «جلال شموط» الذي تنتظره بفارغ الصّبر منذ سنتين ليلمّ شمل العائلة، الكل يخطو نحو الحب بشغف ممزوج بالوجل والحذر.
«أرض محروقة» سابقاً و«مسافة أمان» كما يعرض، للمؤلفة إيمان سعيد والمخرج الليث حجو وإنتاج «إيمار الشّام للإنتاج الفني والتوزيع»، دراما اجتماعية تتناول موضوعات الحب والخيانة والأمل والانكسار والألم بعد الحرب من خلال مجموعة من الحيوات المنعزلة والمجتمعة والمشوقة، ففي كلّ حياة نجد ثنائية متفرّدة في حدث يرتبط بشكل أو بآخر مع أحداث الحيوات الأخرى برابط اجتماعي، أحكمت الكاتبة حبكه وحريته وتنقله بين ثنائيات المشاعر والعواطف، بين الحبّ والكره، والحقد والتّسامح، والإخلاص والخيانة، والمنصب والأخلاق، وبشاعة بعض البشر حين يتاجرون بأعضاء فقراء معدمين لا حول لهم ولا قوة كما يفعل «أنس- كرم الشعراني»، ولاتقلّ المتاجرة بالأخلاق والأجساد عن بشاعة هذه الجريمة، إذ يطلب «المحامي جميل ـ حسين عباس» من ابنة أخيه «صبا» أن تجلس مع أحد المسؤولين وتجنح لرغباته، مدّعياً تخليصها من العوز الذي تعيشه مع أمها المريضة ومصرّحاً بأنّه تنازل عن الكثير من الأمور في حياته حتى وصل إلى الحال الذي هو فيه، لا تفكّر «صبا» بكلام عمّها أبداً بل ترفضه وتستنكر أن يقول هذا الكلام لها فهي شرفه وعرضه، لكنّها حين تسقط ضحية الحقد وتُطلب للتحقيق في جريمة لم ترتكبها تعرف أنه السّند وتوافقه على خروجها من هذه الحارة المقيتة وكأنّما تعلن عن تنازلاتها القادمة، وولوجها إلى عالم الكبار من أبشع أبوابه.
يضم العمل شخصيات كثيرة تتعرف على بعضها لأسباب جعلتها الكاتبة منطقية، كتعارف المصور «يوسف ـ قيس الشيخ نجيب» على «نور ـ حلا رجب» بنت الموسيقي «مراد ـ-جرجس جبارة» صاحب البيت الذي يستأجر فيه غرفة صغيرة منتظراً السّفر والهروب من كلّ شيء من شعوره بالندم والذنب تجاه حبيبته التي ماتت وهي في طريقها إلى بلاد اللجوء، في هذا البيت يتعرّف على نور ويقف معها في أشد لحظات حزنها وانكسارها، كذلك اللحظة التي جمعت الدكتورة «سلام» بـ «نور» لتساعدها في فتح بيانات الحاسوب في المستشفى لمعرفة العمليات التي أجراها زوجها ولكي تكشف حقيقة الأحداث الأخيرة في المشفى، كخروج مرضى وهم في حالة خطرة وبشكل مفاجئ، ولن ننسى هنا الرّاوية شكران مرتجى الحاضرة بصوتها والغائبة بأدائها المميز دائماً، شخصيات كثيرة رئيسة وفرعية لا مجال لذكرها جميعاً، لكن لن نبخسها حقها أبداً من حيث الإشادة بأدائها من دون استثناء ومقدراتها وتعاليها على كثير من الأمور التي قد لا يقبلها ممثلون آخرون، نتحدث هنا عن الشّكل، عن الملابس والمكياج، وعن عدم الحاجة إلى استخدام الجسد وإبراز مفاتنه لتحقيق نسبة مشاهدة عالية، لتكون البطولة الجماعية سيّدة الموقف والحكم ونقطة ذهبية أخرى تضاف لمسيرة المخرج الليث حجو ولتاريخ الدّراما السّورية التي عودتنا على أعمال جماعية كهذه بعيداً عن عمل البطل الواحد أو الثنائيات كالحاصل في الدّراما المشتركة التي صارت تعتمد على ملكة جمال أو مغنية أو عارضة أزياء يختارها المال ويعطيها أدوار بطولة فضفاضة عليها كممثلة.
«مسافة أمان» عمل بسيط الدّيكور والشّكل لكنّه غني الفكرة والأداء، متكامل العناصر، الإضاءة والدّيكور والملابس والموسيقا التصويرية، بما فيها شارة العمل التي تضيف أغنية أخرى لرصيد إياد الريماوي من أغاني شارات الأعمال الدّرامية، من كلماته وألحانه وتوزيعه، لكنّه هذه المرّة يتشارك الغناء مع الفنانة لينا شماميان.
إذاً، الأمان هو مطلب الجميع قصرت مسافته أم طالت، لكن هل ننجح في تحقيق هذه المسافة؟ هل هي مجرّد خطوط وهمية نرسمها ونجهد أنفسنا في اختراعها وتحديدها؟ أسئلة لن نتسرع في الإجابة عنها وسنترك مسافة أمان بين توقعاتنا والحلقات القادمة من العمل.