بطولات مستمرة
إحدى وخمسون سنة مرت.. في الجولان وطبريا والقنيطرة، في سيناء والقناة، معاً وفي وقت واحد، كانت فورة الحق، وكانت انتفاضة الفرسان المقاتلين، عبروا الماء والقناة، وتجاوزوا الجبال والمرصد، ليزرعوا أجسادهم الطاهرة في كل ذرة تراب على الأرض العربية.. ليس صحيحاً عندما يتحدث الإعلام القطري عن منجز مصري وآخر سوري، بل إنه منجز عربي متكامل، اتحدت فيه الجبهتان، في سيناء والجولان، وتضافرت القوى العربية من أبو ظبي إلى الرياض وبغداد والكويت والجزائر والرباط، فكانت لحظة فريدة في تاريخ الأمة، كل مدينة صارت دمشق، وكل عاصمة صارت القاهرة، والعنوان الوحيد لهذه الأمة لأول مرة في التاريخ الحديث هو ساحة المعركة.. وكل الأصابع تشير إلى مكان واحد هو المقاتل الذي كان كائناً أسطورياً في الدفاع والاستبسال من أجل كرامة الأمة وطهر ترابها.. ومهما كانت التحليلات فإن تشرين كان لحظة فاصلة في تاريخ الأمة العربية جمعاء، وفي تاريخ مصر وسورية خاصة، وفي سجل البطولات.
وحدة الأصوات
ما يجمع الأمة حق، وقد يكون في السادس من تشرين ظهراً، حين بدأت حرب تشرين التحريرية كانت الأمة واحدة، فما من محازب، وما من رافض، وما من متخاذل، وما من متردد، وما من شخص مهما كان انتماؤه اقترب من قدسية اللحظة والحرب، ومن صدقية المقاتل العربي، ومن الانتماء في هذه الملحمة التي أعادت، وإن لم يتم إكمال المشوار، كما رأى الأدباء ذكرى ذي قار وحطين وبدر، وكل ملاحم الفخار، بل زادت عن كل ما سبق بما حملته من رؤى وحدوية.
شعراء ومعلقات وإبداع
جُلهم وبلا استثناء.. كانوا في مرحلة سبات وراحة، وربما اختاروا موضوعات أخرى غير الحرب والكرامة والأمة، وبعضهم نكص لجلد الذات من نزار قباني إلى صلاح عبد الصبور إلى سليمان العيسى، وربما توقف بعضهم عن قول الشعر، لكن حرب تشرين أعادتهم من يأسهم أولاً، ومن موضوعاتهم ثانياً، ومن مقطعاتهم التي تمر مروراً إلى المعلقات على أستار الأدب الحديث، بل وأزعم أن الشعراء العرب، اكتشفوا أنفسهم من المحيط إلى الخليج.
سليمان العيسى
بعد صمت طويل تبع نكسة حزيران انطلق سليمان العيسى بحنجرة النصر فقدّم قصيدته "الخالدون" وهي من عيون الشعر العربي الحديث، ومن أعلى شعره الوطني، ومن أكثر شعره قوة وبياناً وصورة في نظر النقد، وأثبتت أن النصر هو الذي فجّر العبقرية الشعرية:
ناداهم البرق فاجتازوه وانهمروا
عند الشهيد تلاقى الله والبشر
ناداهم الموت فاختاروه أغنية
خضراء ما مسّها عود ولا وتر
تقدس المطر المجدول صاعقة
وزنبقاً يا شموخ الأرض يا مَطر
تشرين يا موعد الفرسان يا قدراً
يجثو على قدمي ميلاده القدر
أطلقتها من جحيم اليأس قافلة
من العطاش بقنديل الضحى كفروا
وأينعت بالدم الجولان وانضفرت
سيناء يا روعة الإكليل ينضفر
الخالدون على أهدابنا نبتوا
عرائش الزهو في أحداقنا سهروا
تنام أطفالنا تصحو على قصص
وينسجون الرؤى منها إذا كبروا
صار الصغير يمدّ اليوم قامته
أبوه بالغيمة الحمراء يعتمر
تشرين أمطارك الخضر التي كتبت
أعمارنا لم يكن بالأمس لي عمر
دم الشهيد أعاد اللون لون دمي
وارتدّ ملء جفوني الضوء والبصر
يا شام مدي بساط الحب واحدة
كأس العروبة وليخضوضر السمر
اسقي العطاش حديث المجد رائعة
من الملاحم يفنى دونها السهر
يقاتل النسر ينسى غير ملعبه
ينسى اسمه في السموات اسمه الظفر
ليوشوش المهرة السمراء مبتسماً
في نعلك الموت أدري كيف أنتصر
لأننا وجذور الشمس في يدنا
نقاتل الحلك الباغي سننتصر
كتاب وصفحات خالدة
وفي النثر الإبداعي والإعلامي كانت الحكاية أكثر نبلاً، وخلّد كتابنا حرب تشرين وأبطالها، ولا يستثنى كاتب من عبد السلام العجيلي (أزاهير تشرين المدماة) إلى فارس زرزور إلى علي عقلة عرسان (صخرة الجولان) إلى غادة السمان إلى كوليت الخوري (سنوات الحب والحرب) إلى جان ألكسان وكل الإعلاميين والكتاب، ومن بحور النثر الإبداعي اختار قصة مؤثرة للكاتبة الكبيرة كوليت الخوري نشرتها في أيام الحرب، ثم جمعتها في كتاب وقد قدم الكاتب الروائي الكبير حنا مينة روايته المرصد، وقدم بالاشتراك مع د. نجاح العطار كتاباً توثيقياً غاية في الأهمية والقيمة، ليكون تشرين ملهماً لا يدانيه حدث في التاريخ الحديث.
دراما تشرين
وقفنا مرات عدة مع صور تشرين في الدراما السورية، وقد أنتج التلفزيون العربي السوري عدداً من الأعمال الطازجة العفوية التي تركت أثراً كبيراً مثل (عواء الذئب) و(العريس) وكذلك قدمت السينما في سورية ومصر وكانت أفلام تبقى في الذاكرة عن العبور والجولان والمرصد من أهمها (الرصاصة لا تزال في جيبي) وعلى الرغم من السرعة في الإنجاز إلا أنها بعفويتها بقيت علامات مهمة في تاريخ الفن العربي.
امرأة من تشرين
للكاتبة الكبيرة كوليت الخوري
– ممنوع الدخول
وتصيح المرأة باكية:
– ممنوع؟ كيف؟ يجب أن أرى ابني!
ويردد نفر الشرطة العسكرية على بوابة المستشفى بهدوء:
– يا أختي قلت لك الدخول ممنوع، ألا ترين الناس؟
وتنشج المرأة
ويتدافع الناس أمام الباب.. كلّ جاء يبحث عن ابنه أو أخيه المصاب..
– أرجوك يا ابني.. اسمح لي بالدخول.. يجب أن أرى ولدي.. ويرتفع نواحها..
ويصر الشرطي:
– يا أختي.. طولي بالك.. ممنوع الدخول.. ثم لا مجال الآن للتفتيش عن ابنك!
– أرجوك يا ولدي..
وتتلفت حولها مستنجدة:
– ابني.. يجب أن أرى ابني..
وتلمح صبية بلباس الدفاع المدني مقتربة فتهرع صوبها.. وتناديها متوسلة:
– أرجوك يا ابنتي.. أقبل يديك..
وتسأل الفتاة متعاطفة:
– خير يا خالة. ما بك؟
تشرح المرأة
– ابني.. جرح في الحرب.. أصيب ولدي يا ولدي.. وهو هنا.. وأريد أن أراه..
– ومن قال لك إنه هنا؟
– هو.. هو بعث إلي بخبر..
وتمسح عينيها بمنديل رأسها وتمد يدها إلى جيب سروالها الطويل، تخرج منه ورقة صغيرة تقدمها إلى الصبية:
– اقرئي.. يا ابنتي.. انظري ما في الورقة.. أنا لا أعرف القراءة.
وتقرأ الصبية:
– أنا بخير.. موجود في مشفى المواساة طابق ثان غرفة 19 ابنك مصطفى.
وتنحب المرأة:
– أحد الجيران حمل إليّ هذه الورقة.. أتوسل إليك يا ابنتي..
ويرتفع عويلها:
– يبدو أنه جريح.. يا ولدي..
وتلتفت الفتاة إلى الشرطي ثم تهز رأسها وتقول للأم:
– انتظري هنا.. سأتبين الأمر بنفسي..
وتتجه صوب مدخل المشفى وهي تحس بأن خطواتها تنغرس في نواح أم منهارة..
________
ويظل النواح متواصلاً، ويقطعه من حين إلى آخر صوت أحد أنفار الشرطة العسكرية وهو يردد بين الحشود:
– ممنوع الدخول لا نستطيع أن نبحث في السجلات الآن.
يظل النواح أنيناً حتى عودة الصبية:
– فعلاً يا خالة ابنك هنا.. وقد استأذنت الطبيب.. تعالي معي.
وتهرول الأم وراء الصبية، ويأتي صوتها متأتئاً:
– يا ابني… يا رب أرجو ألا يكون جرحه عميقاً أرجو أن يكون خدشاً بسيطاً.. هل رأيته؟
وتجيب الصبية بصدق:
– لا لم أره.. إحدى الممرضات قالي لي إنه هنا، فاستأذنت المدير..
– يا رب.. أرجو أن يكون خدشاً بسيطاً.. يا إلهي.. لن أحتمل..
_______
عند باب القاعة الكبيرة المكتظة بالأسرّة تقف الأم قلقة، وتطير نظراتها على الجرحى.. وتلمحه في نهاية القاعة.. كالنسر جالساً في سريره.. كالنصر مبتسماً..
وتكون الصبية قد سبقتها إليه.. وتهرع الأم سابحة في دمعها:
– يا ابني.. يا حبيبي.. ما بك؟
ويبتسم ابن العشرين في تفاؤل:
– أنا بخير.
– أين أصبت؟ أين الجرح؟
ودون أن تنتظر الجواب، وبعفوية تكشف عنه الغطاء، فتجحظ عيناها.. وتجمد مشدوهة..
ويفاجأ الشاب بحركتها السريعة.. فيغمغم كأنما معتذراً:
– هكذا حصل.. بتروا لي الساقين!
لثوان تظل الأم جامدة تحملق في السرير الفارغ! وفجأة تنتفض وترفع رأسها كاللبوة وتنطق بحزم:
– "شو عليه؟" ما هم؟ ما هم؟ ثمن النصر غال يا ولدي..
وبسرعة تنحني على السرير وتقبل الساقين المبتورتين في إجلال.. ثم تنتصب من جديد.
– ما هم؟ سننتصر على الأعداء بإذن الله.. سننتصر وثمن النصر يا ولدي غال..
وتقترب لتطبع على جبين ابنها الوضاح قبلة تشجيع وتتمتم:
– الحمد لله أنك ما زلت على قيد الحياة.
__________
كنت بالمصادفة أراقب المشهد.
وأمام تلك الأم المنهارة التي حولتها الصدمة إلى جبل من التصميم والحزم.. أحنيت رأسي في خشوع وأنا أفكر في أن هذا الشعب العظيم..
هذا الشعب المستعد لأن يقدم الأغلى من أجل هذه الأرض..
هذا الشعب، عندما يصمم، قادر على صنع المعجزات.
المصدر: الوطن