على قمم الجبال الساحلية في سورية وفي شعاب أوديتها السحيقة وضمن مستطيل لا تزيد أبعاده على 120 كم طولاً و60 كم عرضاً ينتصب ما يزيد على الثلاثين قلعة وحصناً وهذا العدد قد يكون الأكبر في العالم على مثل هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة نسبياً.
حيث يقاس غنى الهوية الثقافية السورية وعراقة التاريخ السوري بمجموعة الآثار التي خلفتها تلك الشعوب التي استوطنت هذه البقعة من العالم سواء كانت آثاراً مادية ولقى أثرية أم كانت مخطوطات ووثائق ونصوصاً، وإن المعالم التاريخية والآثار التي خلفتها الحضارات المختلفة التي تعاقبت عليها ما هي إلا كلمات في كتاب يروي تاريخ الإنسانية منذ بدء البشرية وحتى اليوم إضافة إلى أنها تقاس أيضاً برجال العلم والأدب والفلاسفة والقامات والشخصيات المميزة التي شكلت منارات مهمة في التاريخ السوري الحافل.
وسورية بلد ذو تاريخ عريق وأرضها هي مهد الحضارات ومنبع الثقافات الإنسانية وعلى أساس علومنا وحضارتنا بنيت علوم الآخرين وحضارتهم فالآثار العظيمة والأوابد التاريخية المنتشرة على كل شبر من ربوعها أكبر دليل على مسيرتها الحضارية فهي غنية بالمواقع الأثرية والحضارات القديمة التي تشمل مختلف العصور التاريخية.. ولا شك أن المكتشفات الأثرية المتميزة والكبيرة التي شهدتها سورية تساهم بشكل واضح في إغناء تاريخنا وحضارتنا وتبقى هذه المكتشفات نبراساً للفن المعماري الأصيل وشاهداً حياً على امتداد جذور أمتنا في الماضي البعيد.
ويخبئ لنا التاريخ السوري دائماً أشياء تجعلنا نقف أمامها في حالة من الدهشة والاستغراب والتقدير لجهود السوريين الأوائل الذين قاموا بها وتعتبر القلاع والحصون التي أفردنا لها حيزاً لابأس به في مقالاتنا الأسبوعية من أهم الشواهد الناطقة على الحقب التاريخية المختلفة وعلى الحضارات والممالك التي قامت فوق هذه الأرض الطاهرة ومؤشراً واضحاً وصريحاً عن الشعوب التي استوطنتها في تلك الحقب والمستوى الثقافي والاجتماعي الذي وصلوا إليه وتعد أيضاً أكثر الآثار جذباً للباحثين في التاريخ والراغبين بالتمتع بالسياحة.
وسورية بحكم موقعها الجغرافي بلاد مرور واحتكاك وتجتازها وتتقاطع فيها الطرق الطبيعية التي تصل شرق آسيا بالبحر الأبيض المتوسط وتصل أوروبا بالجنوب باتجاه الجزيرة العربية وإفريقيا وقد قامت فيها ممالك وإمبراطوريات عظمية قدمت للعالم سلسلةً من الاكتشافات والاختراعات التي ساهمت بازدهار البشرية وتقدم العلوم والفنون وفي شتى المجالات، واستوطنها العديد من الأمم منها السومريون والأكاديون والأموريون والبابليون والآراميون والحثيون والآشوريون واليونانيون والرومان والعرب.
وكنا في المقالات السابقة قد تحدثنا عن القلاع والحصون كأحد المعالم التاريخية في سورية وشاهد حي على صمود السوريين وتمسكهم بأرضهم حيث عرضنا لمحةً موجزةً عن قلعة حلب وقلعة دمشق ثم انتقلنا للحديث عن القلاع في محافظة اللاذقية فاستعرضنا قلعة صلاح الدين وقلعة المهالبة ثم قلعة بني قحطان وقلعة المينقة، ومدرج جبلة الأثري الذي يسميه البعض قلعة جبلة، وضمن التوجه نفسه فقد أعطينا لمحةً موجزةً عن أغلب القلاع والحصون في محافظة طرطوس فتحدثنا عن قلعة أرواد ومدينة عمريت وقلعة الخوابي وقلعة الشيخ ديب وحصن سليمان وقلعة الكهف وبرج ميعار وقلعة العريمة وقلعة يحمور وقلعة العليقة وبرج صافيتا وقلعة القوز وقلعة أم حوش وقلعة القدموس وبرج تخلة وحصن مرقية وقلعة بانياس وبرج الصبي وقلعة المرقب، ثم انتقلنا لاستعراض القلاع والحصون في محافظة حماة فتحدثنا عن قلعة حماة وقلعة سلمية وقلعة الربا وقلعة شميميس وقلعة مصياف وقلعة القاهر وقلعة بعرين وقلعة شيزر وقلعة المضيق وقلعة الحوايس وقلعة الرحية وقلعة أبو قبيس وقلعة برزية، وإن عدد القلاع التي توجد في محافظة حماة والتي تعود إلى عصور تاريخية مختلفة إنما تدل على أهمية مدينة حماة الإستراتيجية في المنطقة وفي مختلف المراحل التاريخية ويبرز دورها الحضاري الذي يتمثل في مئات المواقع الأثرية فيها ونكمل اليوم ماكنا قد بدأناه عن القلاع والحصون في محافظة حماة.
قلعة الرصافة تقع
قلعة الرصافة ذات التاريخ العريق على ارتفاع ما يقارب من 1000 م عن سطح البحر وتتوضع على قمم الجبال التي تتوسط المسافة بين مدينتي مصياف ووادي العيون وهي إحدى قلاع حماة المعروفة، تقع شمال قرية الرصافة وتبعد عن مدينة مصياف مسافة 15 كم في سلسلة الجبال الغربية، يعود تاريخ بناء هذه القلعة إلى أواخر القرن العاشر الميلادي، شيدت القلعة بالبداية لحماية مصياف من الجهة الجنوبية الغربية باتجاه الوادي الرئيسي المؤدي إلى منطقة وادي العيون.
تأخذ القلعة شكلاً شبه دائري وهي مؤلفة من طابقين تتكون القلعة من سورين مركزيين يتخللهما أبراج مربعة تبرز قليلا عن مسار السور الخارجي وبين هذين السورين نجد قاعات متعددة الاستخدامات إضافة إلى مبنى يقع في وسط القلعة، وقد تم بناء السور الخارجي من الحجر الكلسي الضخم وهو متوافر بكثرة في المنطقة ويحيط بها خندق متوسط العمق محفور في الجبل حيث تمت الاستفادة من حجارة الخندق في بناء القلعة كما تضم القلعة عدة أقبية مبنية من الحجر الكلسي المتوسط الحجم وتتميز القلعة بأن جدرانها وأبوابها صممت على شكل قناطر، في عام 1166 م وبسبب الهجمات الصليبية المتكررة على تلك المنطقة قام أمير مدينة مصياف بتحصينها واستكمال بناء المنشآت العسكرية فيها لصد هجماتهم وتعزيز موقعها كبرج إنذار وصلة وصل بين قلاع المنطقة.
وفي عام 1157 م ضرب المنطقة زلزال مدمر وتضررت القلعة بشدة وأدى إلى تهدمها حيث قام نور الدين زنكي بترميم أسوارها وأبراجها وأعاد بناء الأجزاء المتهدمة بسبب الزلزال وفق مواصفاتها القديمة من دون إجراء أي زيادة أو توسعة على مبانيها، وبعد ذلك قام الأيوبيون والمماليك بتدعيمها وزيادة تحصينها واستمرت
قلعة الرصافة بلعب دور مهم نظراً لموقعها الإستراتيجي لكونها تتوضع على قمة جبل عال يطل على سهل صغير من الجهة الجنوبية، ما يسمح لمن يسيطر عليها بالتحكم بالطريق الواصل إلى الجبال الساحلية وبالتالي السيطرة على كامل المنطقة وتأمينها، وبقيت القلعة على هذه الأهمية إلى أن تحول الطريق الرئيسي عنها إلى الساحل السوري، أما في فترة وجود العثمانيين في بلادنا فقد تراجعت أهميتها كثيراً وأهملت وتعرضت أغلب معالمها للاندثار بسبب عوامل الطبيعة والنمو الكثيف لأشجار السنديان الكبيرة فيها ما جعل معالم القلعة الداخلية مخفية والتجول فيها بات أمراً صعباً.
في المحصلة، فإن جميع هذه القلاع الأثرية الشامخة قد تصدّعت وتهدّمت لكنها لا تزال بقاياها تتربع في أماكنها العالية في منظر مهيب وتذكر الأجيال بتاريخ سورية الحافل بالأحداث المهمة وتحكي قصص بطولات وتضحيات أبنائها في سبيل الدفاع عنها.
نقطة مهمة جداً نجد أنه من الضروري الإشارة إليها وهي أنه إذا كانت المواقع والمعالم التاريخية التي تحدثنا عنها سابقاً تشكل قاعدة رئيسية لمناطق الجذب السياحي في منطقة مصياف وما حولها فإن الأمر الذي يفترض أخذه بالحسبان ووضع الخطط التنموية لاستثماره وعدم تجاهله هو أن هناك عشرات المناطق الأخرى المحيطة بهذه الأوابد لا تخلو أيضاً من المقومات السياحية التي تجذب شرائح عديدة ومتنوعة من السياح، وهذه المناطق تبدأ من عين حلاقيم وحزور ولا تنتهي عند حدود الحكر وبرشين.. وغيرها الكثير، والتي تندرج ضمن أنواع السياحة المختلفة سواء كانت سياحة ثقافية أو سياحة علاجية أو سياحة ترفيهية أو سياحة دينية وفي هذه المناطق يمكن العثور على مقومات سياحية مغرية جداً تسمح بإقامة مشاريع تنموية وخدمية واقتصادية توفر العديد من فرص العمل لأبناء المنطقة، ومن ثم فإن التوظيف الأمثل والمدروس لهذه المواقع أصبح ضرورة ملحة كما أن زيادة الرعاية والاهتمام في هذه المرحلة الحساسة تزيد هذه المعالم التاريخية المهمة بهاءً وجمالاً، وغنى عن القول ما لهذه المشاريع من فوائد جمة اقتصادية واجتماعية وترفع مستوى الوعي المجتمعي وتقوي روابط الانتماء بين أفراد المجتمع.
ونحن بدورنا نجد أنه من واجبنا أن نوفر للأجيال القادمة كل ما يزيدها معرفةً ودرايةً بأوابدنا الأثرية العظيمة التي تعكس تاريخ أمتنا الموغل في العراقة والأصالة ونحاول في رحلتنا التاريخية هذه أن نغوص في ذاكرة الحجر من خلال تسليط الضوء على مجموعة من القلاع والحصون المتناثرة على كل الجغرافية السورية والتي كانت ولا تزال تلعب دوراً كبيراً في إعطاء صورة رائعة عن أصالة وعراقة تاريخ سوريتنا الجميلة.
بقي أن نقول إن ما نقوم باستعراضه في مقالاتنا الأسبوعية من معلومات مختصرة لا تتعدى كونها إشارات موجزة لكنها عناوين بارزة وكبيرة لإنجازات حضارية مهمة وإرث ثقافي وتاريخي ومعماري عظيم وجد على أرض سوريتنا الغالية.. ويجعل منها مركز جذب سياحي مميزاً بفضل التنوع الجغرافي الرائع من سواحل وجبال ووديان وسهول وسهوب وبادية وبفضل الغنى الحضاري والأثري المتنوع الذي يمتد من أقصاها إلى أدناها، سورية الملأى بالآثار والأسرار والمكتشفات العظيمة الشاهدة على حضارات وممالك عديدة قامت على كامل أرضها وقدمت إنجازات علمية ومعرفية وثقافية وحضارية كبيرة وكان لها أثرها ودورها في تطور المعارف والعلوم البشرية خلال مراحل زمنية طويلة.