لم يتوسل لغة المنفى، كمثل كثيرين غيره من الشعراء والفنانين، لأنه يدرك أن الخلّاق في العالم منفي حتى في وطنه الأصلي. ثم أين هو الفنان الكبير في هذا العالم الذي يمكن وصفه بأنه غير منفي؟.
هذا ما كتبه العظيم أدونيس في تقديمه للمجموعة الشعرية (حيث يتوقف البحر) لـ يانغ ليان – الصادرة عن دار التكوين بترجمة حذام الودغيري – أحد الشعراء الصينيين الأكثر جرأة وعمقاً، الضبابيين الأصليين الذين تفاعلوا مع قيود الثورة الثقافية ممن تداخلت مواضيعهم بين البحث عن الحكمة الناضجة، والتكيف مع الحداثة ضمن التقاليد الصينية، وفلسفة الموت والحياة لإنشاء صور غريبة ومرعبة.
الشاعر الذي نشأ في بكين وبدأ الكتابة سنة 1970 انتقدت أعماله في الصين في عام 1983 وتم حظره رسمياً في عام 1989 ليعكف على كتابة كتب الشعر في المنفى حتى عام 1995، تشمل ترجمات شعره مجموعات أبرزها؛ كتابه الشعري حيث يتوقف البحر (1999)، دوائر متحدة المركز (2005) ، قصائد لي فالي (2009) ، قصيدة سردية (2017) وبرج مبني لأسفل (2023)..
لكن هل يتوقف البحر كما صاح صديق لـيانغ ليان حين علم باسم المجموعة الشعرية ؟ بالطبع البحر الحقيقي لا يتوقف إلّا في الشعر.
الرتابة وتكرار الرتابة جريمة
من عاش وحيداً عند حافة الجرف كان أقرب إلى الهاوية من الحافة
سحقتك آلاف الأطنان من الصخور الزرقاء
عيناك تعجزان أن تتجنبا البحر المسحوق
هذا الزمن الذي ينظر إلى الأيام ومن الأيام يتعرى
شبَق صفيق للموتى.
وفي مقدمة الترجمة أوردت المترجمة حذام الودغيري أن الشاعر الصيني المنفي اقتنع خلال السنوات التي أمضاها في نيويورك، بأن الإنسان قد ينبعث عبر الكتابة، ويعثر على نفسه بالشعر وبأن المنفى ليس تخصصاً مدى الحياة ولا يعطي قيمة مطلقة ولكنه مادة مستهلكة وتستبدل، حيث يتوقف البحر يمثل هذا الوعي ولحظة الطفرة:
لا يوجد حبّ لم يتحطم في الحب
كمثل سماء مشلولة في السماء
موسيقى قداس الموتى تعزف للآذان الصمّاء وكفى
في تلألؤ سوبرانو الحجر
يجري كل نهر إلى الوراء
تجري وراء السخرية صناديق الربيع التي جمعتها الأم
وكسّرها بانتظام أطفال غاضبون
اختار ليان لتجريد الأنا الشاعرية في قصائده، عدم استخدام ضمير المتكلم أنا، مستبدلاً إياه بـ نحن وفي أحيان بـ نفسه. لقد تخلص من مفهوم الأنا ليسارع بالتحرر من تجسد جوهرها، من المكان تالياً من الزمان، وكانت اللغة الصينية خير معين باعتبارها تسمح بغياب الزمن، سانحة الفرصة للتوصل إلى مفهوم اللامنتهى حيث وجد شاعرنا نفسه أخيراً، زمانية حياة مترحلة داخل المكانية: تجول فيها، تخترقها تذوب وتستأصل من دون أي تساهل .. هكذا يتوقف البحر.
في الظلام يطفو دائماً جسدٌ ليرجع إلى مكان اللاحلم
عندما نخاف لا نخاف إلّا من رعبنا
الظلام لا يبوح بسره، كل سائر في الطريق
يغمغم لنفسه
الظلام ينصت لظلام أحمر- برتقالي كطلاء الشفاه
مدرسة الربيع تخرجنا جُهالاً
الذكرى تسكنها الأشباح
لكن المرض يُنحل المظهر
فيما تُقرَّب المرآة من الوجه يهضم المحيط سمكاً ميتاً
تتقياً من جديد ثرثرة لا تنتهي
ما أكثر الظلمات ما من مرة وصلتْ إليها الحياة
حين يرحل عنا يفنى في الصمت الربيعُ..
كما يتساءل الشاعر في كلمته الواردة في الكتاب الشعري؛ "ما الذي يمكن أن يسدّ الثقب الأسود لسؤال لماذا الكتابة؟ أو بالأحرى للسؤال الأكثر مرارة كيف الكتابة؟ هنا بالذات في هذا الثقب الأسود". مؤكداً ضرورة اختيار قالبٍ يستطيع من خلاله أن يحثّ الواقع كي يسمح للغة ولنفسه أن يستمر بالحياة، "ما يجد مسوّغاً لتلك الضرورة بين الشكل والمضمون، التي أكدتُ عليها دائماً لذا يمكن اعتبار ” حيث يتوقف البحر بحثي الشخصي".
الرؤى الغريبة والعنيفة يظل معناها غامضًا، ليشرع القارئ بإدراك ما تعنيه ببطء، فهي تُعبر عن صراع داخلي تلاحظه إبان بحثك عن الحقيقة. عن ذلك يقول يانغ ليان "أعرف أن شعري بالغ الصعوبة لكن بهجة الخلق تنبعث من خلال إلقاء الضوء على العوامل الشعرية الخالصة أي الشكلية البحتة، كل جملة تشفّ عن صورة لحالة نفسية معينة وتراكب الحالات المتباينة يشير إلى وجود بنية خفية وأن القصيدة تفتح فضاء من طرازٍ موسيقيّ:" فإذا ما تعذر عليك الفهم، أنصت".
لا جمال إن لم يكن قاسياً
ولا شاعر لم تقطّع أصابعه المنشار
حريق هادئ بين صفحات بيضاء يصنع غروباً
يقول خوفاً لا يقال.
المصدر: صحيفة تشرين