فالقدود بأصلها السرياني - السوري هي مِن نسيجِ مدينةٍ شربت الغناءَ مع مائها، وزرعتهُ في الزوايا والتكايا والحنايا مثل شجر الغار، وليست بالـ "هجنة" النغميّة النافرة التي تضرب بمقارع السخافة على أسماعنا، بل هي ترجيحُ كفّة ميزانِ النّغم نحو مدينةٍ أبدعتْ من رحِمِ زمانها ومكانها لونَها التطريبيّ الخاص فصارت تُكنى بـ "حلبْ أمّ الطرب"، وصارَ النغمُ مقياسَ التغزّل بـ "قدّها" الميّاس وقوامها وقيمتها التاريخية، وأثّرَ في العديد من الملحنين العرب مثل الراحل بليغ حمدي حينَ جعلَ العندليب عبد الحليم حافظ في أغنية “مدّاح القمر "يصدَحُ منتشياً ومتأثراً بالفولكلور السوري الحلبي.
"قدُّكَ الميّاس يا عمري/ أيقظَ الإحساس في صدري/ أنتَ أحلى الناس في نظري/ جلّ مَنْ سوّاك يا قمري"
موشحات حلبية!
وحسب الدراسات الموسيقية والكتب التي تناولت تأثير أهل حلب في الموسيقا العربية نجد أن السيد درويش العبقري المصري كان قد أقام فترة في مدينة حلب وتأثر بالملحن عمر البطش وأخذ عنه أسلوب تلحين الموشحات وإيقاعاتها وأبدع بموشحات منها: يا شادي الألحان، ومنيتي عزَّ اصطباري، ويا بهجة الروح.
وكيف ننسى الحلبي الراحل مجدي العقيلي وهو واحدٌ من رواد النهضة الموسيقية السورية والذي استدعاه الرئيس فخري البارودي للإشراف على القسم الموسيقي في إذاعة دمشق منذ تأسيسها ولحظات البث الأولى عام 1974 ثم في نشر العلوم الموسيقية في دمشق وحلب عبر التدريس وعضوية اللجان المختصة في العناية بالشؤون الموسيقية في إذاعة حلب والتلفزيون السوري وفي مدارس سورية كلها.
وقد ترك لنا موسيقا موشحات حلبية صدح بها صباح فخري على خشبات المسارح العالمية، ومن بعده عشرات المطربين السوريين وصولاً إلى المغرب العربي مثل: موشح جادك الغيث، كلمات لسان الدين بن الخطيب، وموشح (لو كنت تدري ما الحب يفعل) كلمات مصطفى خلقي، وموشح (أيها الساقي إليك المشتكى) من أشعار ابن زهر.
عظيمةٌ في الماضي والحاضر!
هكذا إذاً تتمايز حلب بمبدعيها الرواد الذين تركوا في وجداننا ذكريات طيبة في الحب والوطنية ومقارعة أعدائها التاريخيين من العثمانيين مروراً بالفرنسيين وصولاً إلى “العثمانيين الجدد” وصبيانهم الإيغور والأوزبك وغيرهم.. ألم ينشد وطنيّوها يوماً كلمات نجيب الريس وألحان أحمد الأوبري الحلبي:
يا ظلام السجن خيّم
إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل إلا
فجرُ مجدٍ يتسامى
ومن أجلك يا شهباءُ يا مدينة الصخر والرجولة يا حسناءَ الشمال.. ألم ينشد أبو فراس الحمداني:
نحن قومٌ لا توسّطَ بيننا
لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ
تهونُ علينا في المعالي نفوسُنا
ومَنْ يخطُبِ الحسناءَ لم يُغْلِها المهرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العُلى
وأكرمُ مَن فوقَ الترابِ… ولا فخرُ
ومن أجلك يا حلب التي ستثبت للعالم أنها ليست فقط “قدوداً” بل هي “قدّها وقدود”.. لعينيكِ أيتها “المدينة المبدعة” -كما وصفتها اليونيسكو- يا ولّادة العظماء، يا مَنْ أهديتنا قدودَك مُعادلاً وجدانيّاً لقلعة حلب فجعلتنا كالمنوَّمين عشقاً بكِ نغنّي طويلاً في سهراتنا “وصلاتِ الطرب الحلبي”، بل صرنا نردد من إرثك الموسيقي أغنيةً وطنيةً تتغزل بكامل سورية على مدار الأيام وفي كل عيدٍ وطني.. أغنيةً من تلحين الحلبي الراحل سمير حلمي (اسمه الحقيقي أدمون حداد) وكلمات الشاعر عيسى أيوب:
(هي هيه يا شام.. هي هي يا أم الضفاير…
هي هيه ما بينضام عجبالك هالمهر الغاير..
ناديتينا ونحنا جينا على موعدنا..
حبيتينا وحبك فينا بيجددنا..
ما بتنضام ريشة من طيرك هالطاير..
والحوّام نسرك حامي هالعماير… يا شام).