سيرة حياته
ولد
سعد الله ونوس سنة 1941 في قرية في شمالي غربي
سورية تسمى حصن البحر بالقرب من مدينة طرطوس.
وهو من أسرة فقيرة عاشت ضائقة مالية وصفها ونوس بأنها «سنوات بؤس وجوع وحرمان» ولما التحق بالمدرسة الابتدائية أظهر ضعفاً في مادة التعبير مما جعله يُكثِر من المطالعة عملاً بنصيحة مدرس اللغة العربية. وكان أول كتاب اقتناه هو «دمعة وابتسامة» لجبران خليل جبران وكان عمره اثنتي عشرة سنة، ثم نمت مجموعة كتبه وتنوعت (طه حسين، ميخائيل نعيمة، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس...إلخ). وهكذا بعد انتهاء العام الدراسي قضى شهور الصيف يقرأ كل ما يقع تحت يديه، حتى عشق القراءة، وازداد ولعه بها إلى درجة أنه كان يشتري كتبه بالدَّيْن.
تابع الدراسة في ثانوية طرطوس حيث حصل على الثانوية العامة في عام 1959، وفي نفس العام حصل على منحة دراسية للحصول على ليسانس الصحافة في كلية الآداب بجامعة القاهرة. وفي هذه السنوات الأربع من الدراسة استطاع أن يطلّ على الأدب المسرحي من خلال محاضرات المرحوم الدكتور محمد مندور.
أثناء دراسته وقع الانفصال في الوحدة بين مصر و
سورية مما أثر كثيراً عليه، وكانت
هذه الواقعة بمثابة هزة شخصية كبيرة دفعت به إلى كتابة أولى مسرحياته والتي لم تنشر
حتى الآن، وكانت مسرحية طويلة بعنوان «الحياة أبداً» عام 1961. وبعدها تخرّج عام
1963 وعاد إلى دمشق حيث عُيِّن مشرفاً على قسم النقد بمجلة «المعرفة» التي تصدر عن وزارة الثقافة. وخلال عمله بالمجلة أصدرت عام 1964 عدداً خاصاً عن المسرح كتب فيه قسماً خاصاً بمصر ودراسة عن مسرح اللامعقول عند توفيق الحكيم.
وبعد ثلاث سنوات من العمل في مجلة «المعرفة» تركز اهتمامه على المسرح وعندما سنحت له الفرصة سافر عام 1966 في إجازة دراسية إلى باريس لدراسة الأدب المسرحي في معهد الدراسات المسرحية التابع لجامعة السوربون. وهناك وصلته أنباء هزيمة 1967 فتأثر كثيراً واعتبرها هزيمة شخصية له. وعبّر عن ألم هذه الهزيمة في مسرحيته التي أخذشهرة بها «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968)، وأثناء ذلك عاد إلى دمشق يعاني آلاماً نفسية مبرّحة، جعلته يصف الأربعة شهور التي قضاها فيها بعبارة «في بؤس تام وفي شبه غيبوبة». عاد بعدها إلى فرنسا التي سرعان ما شدته الحياة الفكرية فيها وأخرجته من عزلته.
مارس هناك حياة سياسية وساهم أثناء انتفاضة الطلاب في جامعات فرنسا مع زملائه في إقامة أحد المنابر للتعريف بالقضية الفلسطينية من خلال الخطب والمنشورات والكتيبات. وكان مؤمناً بالاشتراكية العلمية منهجاً وأسلوباً في الحياة، إلا أنه لم يعرف
ارتباطاً بأي تنظيم حزبي.
وأخيراً أنهى دراسته في فرنسا عام 1968 وعاد إلى دمشق، فعُيِّن رئيساً لتحرير مجلة
«أسامة» الخاصة بالأطفال من عام 1969 إلى عام 1975 حيث أخذ إجازة بدون راتب وعمل محرراً في صحيفة السفير البيروتية، وعندما هبّت الحرب الأهلية في لبنان عاد إلى دمشق ليعمل مديراً لمسرح القباني الذي تشرف عليه وزارة الثقافة. وأسس مع شريكه وصديقه المسرحي فواز الساحر (1948-1988) فرقة المسرح التجريبي في دمشق والتي قدمت عدة عروض. وكان يهدف إلى تقديم مسرح وثائقي وسينما وثائقية تساهم في اكتشاف مشاكل المجتمع وفهمها، وتدعو إلى الإصلاح والتغيير. كما عمل أيضاً مع مجموعة من المتحمسين للمسرح ومنهم علاء الدين كوكش على إقامة مهرجان دمشق المسرحي الأول 1969، وعُرِضت خلال هذا المهرجان مسرحيته «الفيل يا ملك الزمان». ونجح المهرجان على مستوى الوطن العربي، وتوقف بعد المهرجان الثامن في 1978 بسبب الأحوال السياسية الصعبة التي شهدتها المنطقة، ومنها الحرب الأهلية في لبنان، والقطيعة العربية مع مصر. وفي عام 1977 أصدرت وزارة الثقافة مجلة مسرحية هي «الحياة المسرحية» وأوكلت إلى
سعد الله ونوس رئاسة تحريرها حتى عام 1988 وهي مجلة فصلية متخصصة في شؤون المسرح.
ومن الجدير بالذكر أنه في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت عام 1982
اعتصم ونوس عن الكتابة لعقد من الزمن تقريباً، منذ أواخر السبعينات ليعود إلى
الكتابة في أوائل التسعينات بمجموعة من المسرحيات السياسية بدءاً بمسرحية «الاغتصاب» (1990) التي تدور حول الصراع العربي الإسرائيلي، ومنذ ذلك الحين كتب «منمنمات تاريخية» (1994)، «طقوس الإشارات والتحولات» (1944)، «أحلام شقية» (1995)، «يوم من زماننا» (1995)، وأخيراً «ملحمة السراب» (1996) و«بلاد أضيق من الحب» (1996).
ويكاد
سعد الله ونوس أن يكون مؤرخ الهزائم العربية من «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» إلى «طقوس الإشارات والتحولات» (1994)، وعندما وقعت حرب الخليج (1990) عدها الضربة الأخيرة الموجعة. ويقول: «أشك معها في أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بمرض السرطان، وليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب والقصف الوحشي الأميركي على العراق».
وهكذا أصيب سعد بالمرض الخبيث وهو سرطان البلعوم في عام 1992، وقد حدد له الأطباء الفرنسيون مدة للمرض القاتل بستة أشهر وأن هذا الرجل سيفارق الحياة بعدها، لكنه كما عبّر هو نفسه فقد كافح المرض من خلال إصراره على الكتابة والتأليف والإبداع، وهكذا دخل في صراع استمر خمس سنوات مع المرض، ففي عام 1994 عاوده السرطان في الكبد وبدأ دورة علاج طويلة في دمشق.
وفي لقاء أخير معه قال: «إن إحساسي الجنائزي سيتضاعف أكثر وأكثر وأنا على حافة
هذه التخوم الرجراجة بين الحياة والموت. أعتقد أن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من
عمري وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً مثلاً، الكثير من الفرح وأهدرت الكثير من الإمكانات».
وفي عام 1997 أبلغت لجنة جائزة نوبل للآداب إدارة اليونسكو للتربية والثقافة
والعلوم إبلاغ المسرحي الكبير
سعد الله ونوس بنيله جائزة نوبل للآداب وذلك عن ترشيح
المجمع العلمي بحلب في سورية، ثم أجمعت على صحة الترشيح الأكاديميتان الفرنسية
والسورية، لكن الموت قد سرقه بعد أيام قليلة من هذا الخبر فلم ينل الجائزة وهكذا
رحل عن العالم في 15 أيار 1997. وترجمت الكثير من أعماله إلى الفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية والبولونية والأسبانية.
تأثيره على مسيرة الأدب في سورية
لعل
سعد الله ونوس كان يشكل بالنسبة لعدد لا يحصى من المثقفين والمبدعين العرب
الضمير المعلن والقادر على الجهر، في مشهد الصمت، وكانوا يقنعون بذلك ليتسنى لهم
الذهاب إلى النوم براحة زائفة، على أساس أن ثمة من يحمل عنهم عبء المجابهات. لقد
كان ونوس أحد علامات الضمير الشجاع الذي بات يتقلص ويندر.
خلق ونّوس مسرحاً جديداً مختلفاً عن مسرح الخطابة. فقد آمن بالكلمة – الفعل - وخلق
مسرحاً وجودياً فلسفياً. وفي حوار لونّوس عام 1979 شرح تطور أسلوبه المسرحي قائلاً:«منذ منتصف الستينات بدأت بيني وبين اللغة علاقة إشكالية ما كان بوسعي أن أتبينها بوضوح في تلك الفترة، كنت أستشعرها حدثاً أو عبر ومضات خاطفة. لكن حين تقوض بناؤنا الرملي صباح الخامس من حزيران، أخذت تلك العلاقة الإشكالية تتجلى تحت ضوء شرس وكثيف.ويمكن الآن أن أحدد هذه العلاقة بأنها الطموح العسير لأن أكثّف في الكلمة، أي في الكتابة شهادة على انهيارات الواقع وفعلاً نضالياً مباشراً يعبر عن هذا الواقع. وبتعبير أدق كنت أطمح إلى إنجاز (الكلمة – الفعل) التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل الثورة معاً. لم يكن دور المشاهد وحده يستوعب حدود الفعالية التي أتوخاها، لكن المناضل الذي أريد أن أكونه ليس في النهاية سوى كائن فعله الكلمات».
ويتابع ونوس: «حين عرضت المسرحية بعد منع طويل (يقصد حفلة سمر) كنت قد تهيأت للخيبة، لكن مع هذا كنت أحس مذاق المرارة يتجدد كل مساء في داخلي وينتهي تصفيق الختام. ثم يخرج الناس كما يخرجون من أي عرض مسرحي، يتهامسون، أو يضحكون، أو ينثرون كلمات الإعجاب. ثم ماذا؟ لا شيء آخر. أبداً لا شيء.. لا الصالة انفجرت في مظاهرة ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً إذ يلتقطهم هواء الليل البارد عندما يلفظهم الباب إلى الشارع حيث تعشش الهزيمة وتتوالد».
هكذا كان
سعد الله ونوس مقاتلاً بالكلمة وحالماً بالحرية حتى آخر لحظة في حياته،
فقد ذكرت زوجته فايزة شاويش أنه لم يترك الكتابة والورق والأقلام حتى في أيامه الأخيرة بالمستشفى وهو يودع دنيانا.
طرح ونّوس فكرة «تسييس المسرح» كبديل عن المسرح السياسي. كان مؤمناً بأهمية المسرح في إحداث التغييرات السياسية والاجتماعية في العالم العربي.
من أجرأ مسرحياته السياسية «الفيل يا ملك الزمان» (1969)، «الملك هو الملك» (1977)، و«رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» (1978).
يقول ونّوس: «قد كررت مراراً أنني لم ألجأ إلى الأشكال الفنية التي لجأت إليها
تلبية لهواجس جمالية أو لتأصيل تجربة المسرح العربي من الناحية الحضارية، وإنما
لجأت إلى هذه الأشكال وجربتها،محاولاً أن أتواصل مع جمهور واسع، وكنت أريد أن
يكون مسرحي حدثاً اجتماعياً وسياسياً يتم مع الجمهور».
وقد كلف المعهد الدولي للمسرح، التابع لليونسكو،
سعد الله ونوس بكتابة «رسالة يوم المسرح العالمي» لعام 1996، وكتب هذه الرسالة التي ترجمت إلى لغات العديد من بلدان العالم، وقرئت على مسارحها. يقول فيها:
«لو جرت العادة على أن يكون للاحتفال بيوم المسرح العالمي، عنوان وثيق الصلة
بالحاجات التي يلبيها المسرح ولو على مستوى الرمزي، لاخترت لاحتفالنا اليوم هذا
العنوان "الجوع إلى الحوار". حوار متعدد، مركب، وشامل. حوار بين الأفراد، وحوار بين الجماعات. ومن البديهي أن هذا الحوار يقتضي تعميم الديمقراطية، واحترام التعددية،
وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء. وعندما أجس هذا الجوع، أدرك
إلحاحه وضرورته، فإني أتخيل دائماً، أن هذا الحوار يبدأ من المسرح، ثم يتموج متسعاً
ومتنامياً، حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه وتنوع ثقافاته. وأنا أعتقد أن المسرح،
ورغم كل الثورات التكنولوجية، سيظل ذلك المكان النموذجي الذي يتأمل فيه الإنسان
شرطه التاريخي والوجودي معاً. وميزة المسرح التي تجعله مكاناً لا يُضاهى، هي أن
المتفرج يكسر فيه محارته، كي يتأمل الشرط الإنساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه إلى
الجماعة، ويعلمه غنى الحوار وتعدد مستوياته. فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي،
وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج. وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم. وفي مستوى أبعد، هناك حوار بين الاحتفال المسرحي (عرضاً وجمهوراً) وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال. وفي كل مستوى من مستويات الحوار هذه، ننعتق من كآبة وحدتنا، ونزداد إحساساً ووعياً بجماعيتنا. ومن هنا، فإن المسرح ليس تجلياً من تجليات
المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره. ولكن عن أي مسرح أتكلم! هل أحلم، أم هل أستثير الحنين إلى الفترات التي كان المسرح فيها بالفعل حدثاً يفجر في المدينة الحوار والمتعة! لا يجوز أن نخادع أنفسنا، فالمسرح يتقهقر. وكيفما تطلعت فإني أرى كيف تضيق المدن بمسارحها، وتجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة، بينما تتوالد وتتكاثر في فضاءات هذه المدن الأضواء، والشاشات الملونة، والتفاهات المعلبة، لا أعرف فترة عانى فيها المسرح مثل هذا العوز المادي والمعنوي. فالمخصصات التي كانت تغذيه تضمر سنة بعد سنة، والرعاية التي كان يحاط بها، تحولت إلى إهمال شبيه بالازدراء، غالباً ما يتستر وراء خطاب تشجيعي ومنافق. وما دمنا لا نريد أن نخادع أنفسنا، فعلينا الاعتراف، بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الاحتفال المدني، الذي يهبنا فسحة للتأمل، والحوار، ووعي انتمائنا الإنساني العميق. وأزمة المسرح، رغم خصوصيتها، هي جزء من أزمة تشمل الثقافة بعامة. ولا أظن أننا نحتاج إلى البرهنة على أزمة الثقافة، وما
تعانيه هي الأخرى من حصار وتهميش شبه منهجيين، وإنها لمفارقة غريبة أن يتم ذلك كله، في الوقت الذي توفرت فيه ثروات حولت العالم إلى قرية واحدة، وجعلت العولمة واقعاً يتبلور ويتأكد يوماً بعد يوم. ومع هذه التحولات، وتراكم تلك الثروات، كان يأمل
المرء، أن تتحقق تلك اليوتوبيا، التي طالما حلم بها الإنسان. يوتوبيا أن نحيا في
عالم واحد متضافر تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون غبن، وتزدهر فيه إنسانية الإنسان
دون حيف أو عدوان. ولكن،... يا للخيبة! فإن العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية
قرننا العشرين، تكاد تكون النقيض الجذري لتلك اليوتوبيا التي بشر بها الفلاسفة،
وغذت رؤى الإنسان عبر القرون. فهي تزيد الغبن في الثروات وتعمق الهوة بين الدول
الفاحشة الغنى، والشعوب الفقيرة والجائعة. كما أنها تدمر دون رحمة، كل أشكال
التلاحم داخل الجماعات، وتمزقها إلى أفراد تضنيهم الوحدة والكآبة. ولأنه لا يوجد أي
تصور عن المستقبل، ولأن البشر وربما لأول مرة في العالم، لم يعودوا يجرؤون على
الحلم فإن الشرط الإنساني في نهايات هذا القرن يبدو قاتماً ومحبطاً. وقد نفهم بشكل
أفضل مغزى تهميش الثقافة، حيث ندرك أنه في الوقت الذي غدت فيه شروط الثورة معقدة وصعبة، فإن الثقافة هي التي تشكل اليوم الجبهة الرئيسية لمواجهة هذه العولمة
الأنانية، والخالية من أي بعد إنساني. فالثقافة هي التي يمكن أن تبلور المواقف
النقدية، التي تعري ما يحدث وتكشف آلياته. وهي التي يمكن أن تعين الإنسان على
استعادة إنسانيته، وأن تقترح له الأفكار والمثل التي تجعله أكثر حرية ووعياً
وجمالاً. وفي هذا الإطار، فإن للمسرح دوراً جوهرياً في إنجاز هذه المهام النقدية
والإبداعية، التي تتصدى لها الثقافة. فالمسرح هو الذي سيدربنا، عبر المشاركة
والأمثولة، على رأب الصدوع والتمزقات التي أصابت جسد الجماعة وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعاً. وأنا أومن أن بدء الحوار الجاد والشامل، هو خطوة البداية
لمواجهة الوضع المحبط الذي يحاصر عالمنا في نهاية هذا القرن.
*
إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ. منذ أربعة
أعوام وأنا أقاوم السرطان، وكانت الكتابة، والمسرح بالذات، أهم وسائل مقاومتي. خلال
السنوات الأربع، كتبت وبصورة محمومة أعمالاً مسرحية عديدة. ولكن ذات يوم، سئلت وبما يشبه اللوم: ولِمَ هذا الإصرار على كتابة المسرحيات، في الوقت الذي ينحسر فيه
المسرح، ويكاد يختفي من حياتنا! باغتني السؤال، وباغتني أكثر شعوري الحاد بأن
السؤال استفزني، بل وأغضبني. طبعاً من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المديدة، التي تربطني بالمسرح، وأنا أوضح له، أن التخلي عن الكتابة للمسرح، وأنا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي، وقد يعجلان برحيلي. وكان علي لو أردت الإجابة أن أضيف: إني مصر على الكتابة للمسرح، لأني أريد أن أدافع عنه، وأقدم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حياً. وأخشى أنني أكرر نفسي لو استدركت هنا وقلت: إن المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً، لو أضاعها أو افتقر إليها. ومهما بدا الحصار شديداً، والواقع محبطاً، فإني متيقن أن تضافر الإرادات الطيبة، وعلى مستوى العالم، سيحمي الثقافة، ويعيد للمسرح ألقه ومكانته. إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ».
أعماله
- الحياة أبداً (1961).
- ميدوزا تحدق في الحياة (1964).
- فصد الدم (1964).
- عندما يلعب الرجال (1964).
- جثة على الرصيف (1964).
- مأساة بائع الدبس الفقير (1964).
- حكايا جوقة التماثيل (1965).
- لعبة الدبابيس (1965).
- الجراد (1965).
- المقهى الزجاجي (1965).
- الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا (1965).
- حفلة سمر من أجل 5 حزيران (1968).
- الفيل يا ملك الزمان (1969).
- مغامرة رأس المملوك جابر (1971).
- سهرة مع أبي خليل القباني (1973).
- الملك هو الملك (1977).
- رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة (1978).
- الاغتصاب (1990).
- منمنمات تاريخية (1994).
- طقوس الإشارات والتحولات (1994).
- أحلام شقية (1995).
- يوم من زماننا (1995).
- ملحمة السراب (1996).
- بلاد أضيق من الحب (1996).
- رحلة في مجاهل موت عابر (1996).
- الأيام المخمورة (1997).
أشهر أعماله
سوف نستشهد بثلاثة أنواع كانت واضحة في أعمال
سعد الله ونوس وهي: المسرح
التسجيلي، المسرح الملحمي، والمسرح التاريخي.
المسرح التسجيلي
حفلة سمر من أجل 5 حزيران (1968):
يقول ونّوس بصدد هذا العمل: «وأنا أمضي في كتابة المسرحية لم أفكر بأصول مسرحية، ولا بمقتضيات جنس أدبي محدد. لم تخطر ببالي أية قضية نقدية، كنت فقط أتصور وغالباً بانفعال حسي حقيقي، أني أعرّي واقع الهزيمة وأمزق الأقنعة عن صانعيها».
هذه المسرحية تصنف بما يسمى المسرح التسجيلي وهو شكل من أشكال المسرح الواقعي
ومهمته تسجيل الأحداث الجارية.
تدور أحداث هذه المسرحية داخل مسرح رسمي في إحدى الدول العربية، ويتواجد في المسرح جمهور يضم مجموعة من رجال السلطة وعدداً من المواطنين واللاجئين.
وكان من المفروض أن تبدأ مسرحية «صفير الأرواح» في الثامنة والنصف، لكن الوقت يمر دون أن يظهر شيء على الخشبة، فيبدأ المتفرجون بالتذمر، وفي هذه اللحظة يظهر مخرج العرض معتذراً إليهم عن التأخير، ملقياً بالمسؤولية على مؤلف المسرحية الذي سحب موافقته على عرض مسرحيته قبل الافتتاح.
ينهض المؤلف من بين صفوف المتفرجين لكي يتحاور مع المخرج، وهذا الأخير كان يتصور أحداث الحرب بصورة بعيدة عن الواقع من خلال تصوير ما يدور من أحداث في إحدى قرى الحدود المتاخمة للعدو، وتظهر مجموعة من الرجال، تنقسم إلى فريقين، أحدهما يتزعمه المختار وينادي بالرحيل، حفاظاً على الأرواح، والفريق الآخر يطالب بالبقاء في الأرض وعدم مغادرتها، ويودعهم أهل القرية في جو مشبع بالحماسة البالغة.
ثم يقترح المخرج أن يعرض لهم سهرة من الغناء الشعبي والرقص بدلاً من المسرحية
الملغاة، لكن جمهور الصالة يسخر منه ويصعد أحدهم إلى خشبة المسرح وهو فلاح كبير
في السن يسأل عن القرية التي رآها على خشبة المسرح، وينضم إليه ابنه الذي يشارك
فيما بعد في النقاش، حيث يسألون المخرج عن القرية العجيبة التي يقدمها لهم على خشبة
المسرح ويحتج المخرج على تدخلهم، لكن المؤلف يشجعهم على الاستمرار في كشف الحقيقة فيروون قصة قريتهم وكيف نزحوا منها لكي يصبحوا لاجئين في الخيام يجدون المهانة في انتظارهم وأكثر من الذل، يجدون هناك من يتهمهم بالتقصير لأنهم تركوا أرضهم ونزحوا عنها، فيستنكرون هذا الاتهام لأنهم لم يكونوا يعرفون ماذا يحدث لهم، فلا أحد يزورهم ولا أحد يشرح لهم ماذا يفعلون وقت الحرب، فالمسؤولون في العاصمة لا يدرون عنهم شيئاً. ويتدخل عدد آخر من المتفرجين في النقاش وتتحول خشبة المسرح إلى محاكمة تبحث عن مسببات الهزيمة والمسؤولين عن حدوثها، وتتحول المناقشات إلى مظاهرة صاخبة تطالب بالسلاح حلاً وحيداً لغسل عار الهزيمة. وهنا ينبري رجل رسمي ويشير إلى عدد من رجاله فينتشرون في الصالة ويغلقون الأبواب شاهرين مسدساتهم في وجوه المتفرجين ويقبضون على الفلاح وبقية المتفرجين الذين شاركوا في الاحتجاج بتهمة التآمر على الحاكم، ويتجه الرجل الرسمي إلى جمهور الصالة ويلقي عليهم خطبة تقليدية، يصف فيها المقبوض عليهم بأنهم متآمرون وعملاء للاستعمار.
وهكذا أدان
سعد الله ونوس السلطة الحاكمة لابتعادها عن المواطنين، وعدم تعبئتهم
للحرب أو تنويرهم لمهامهم وقت وقوعها وأدان المثقفين والفنانين بسبب تحليقهم في
عوالم خيالية وابتعادهم عن الواقع وعدم التصاقهم بهموم الشعب والتعبير عن طموحه
وآماله، كما أدان الشعب نفسه بسبب سلبيته واستسلامه دون محاولة تغيير واقعه، وتركه
لأرضه بعدما احتلها العدو.
ولعل ونوس يقصد من وراء تصوير هذا الإحباط وتسجيله إلى جعل المتفرج يتجاوز في طموحه مرحلة المطالبة بحرية الرأي إلى المشاركة في صنع الحدث، وتغيير الواقع المريض برمته.
سهرة مع أبي خليل القباني (1973):
وتصنف هذه المسرحية ضمن ما يسمى بالمسرح التسجيلي فهذه المسرحية تسجل نضال
القباني من أجل خلق مسرح عربي في بلاد الشام، وتصور الصعوبات التي يلاقيها من قوى رجعية تحارب كل ما هو جديد خوفاً على مصالحها ونفوذها وينشب الصراع بين قوى التقدم والقوى الرجعية.
يجمع القباني حوله مجموعة من هواة التمثيل ويكون معهم فرقة مسرحية تقدم عروضها
لأهالي سورية، وبعد نجاح هذه الفرقة يستأجر القباني كازينو الطليان، ويجهزه ليصبح
مسرحاً تتوفر فيه شروط العرض المسرحي. ويلاقي مسرحه النجاح مما يثير حفيظة القوى الرجعية وعلى رأسها الشيخ سعيد الغبرا الذي يدبر المؤامرات ضد القباني، ويؤلّب
الناس عليه، وبعد أخذ ورد يأمر السلطان العثماني بإغلاق مسرح القباني فيسارع الشيخ
سعيد إلى الشام، ويقود عملية إحراق المسرح، ووسط ذهول فرقة القباني، يهدئ القباني
من روعهم ويرفع معنوياتهم «حالنا أفضل من الذين يصفدونهم ويرمونهم في قاع البوسفور، لو يئسنا فلن تقوم في هذه البلاد نهضة ولو بعد مئات السنين».
وبذلك تنتصر القوى الرجعية في معركتها ضد دعاة التطور والتقدم. وهكذا فإن ونوس يريد وضع القارئ أو المتفرج أمام مسؤوليته، فإذا لم يقف إلى جانب القوى التقدمية التي تدعو إلى التطور والتقدم فإن الغلبة حتماً ستكون للقوى الرجعية.
ويقدم ونوس أحداث المسرحية على مستويين: المستوى الأول: وتدور أحداثه على خشبة مسرح القباني حيث يجري تمثيل مسرحية القباني «هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب»، وقد جاء بمسرحية القباني كما هي مع إجراء تعديل طفيف في لغتها وبعض مواقفها، وقد تضمن هذا المستوى من الحدث، الشعر والموسيقى والغناء، مثلما كان يفعل القباني في مسرحه.
أما في المستوى الثاني فيدور الحدث على ثلاثة محاور: المحور الأول في المقهى حيث
يلتقي المثقفون دعاة التحرر من الحكم التركي والاستقلال عن الدولة العثمانية. والمحور الثاني يصور حلقة الذكر حيث يتجمع الشيخ سعيد الغبرا وأتباعه ويمثل هذا المحور قوى التخلف التي تحارب كل جديد متطور. والمحور الثالث يصور الأحداث التي تدور في مسرح القباني ونضاله من أجل إرساء فن المسرح في سورية، في مواجهة القوى التي تحارب وجود المسرح. وهنالك محور آخر للرواية التاريخية حيث يتناوب المنادي مع الممثلة في رواية الوقائع التاريخية لتلك المرحلة من الحياة في الشام.
وهكذا من خلال المستوى الأول يعرض
سعد الله ونوس مادة وثائقية في سياق مسرحيته
ليقدم نموذجاً لمسرح القباني ويتعرف الجمهور على خصائص هذا المسرح وملامحه العربية الأصيلة، وإن كان ونّوس قد أفاد من هذه المشاهد في كسر رتابة حدث مسرحيته بما تتضمنه مسرحية القباني من شعر وأغان وموسيقى.
أما أحداث المستوى الثاني فتصور جهود القباني لإرساء فن المسرح في سورية. إضافة إلى تصوير صراع القوى الوطنية ضد الرجعيين والحكم التركي.
المسرح الملحمي
وفي هذا المسرح حاول ونّوس أن يزاوج بين حماسته لخلق مسرح عربي له خصوصيته، وما وصل إليه المسرح الملحمي من شكل يختلف عن القوالب المسرحية الغربية المتعارف عليها منذ قدماء اليونان حتى العصر الحديث والوصول من خلاله إلى صيغة مسرحية تحمل الهوية العربية وتتمتع بالأصالة.
والمسرح الملحمي من حيث الوظيفة يهدف إلى كشف الحقائق من خلال المتعة، ويدعو
المتفرجين إلى المشاركة في التغيير ويعتمد في توجهه على العقل لا الانفعال، وعلى
الفهم والمشاركة بالفكر لا الاندماج العاطفي.
وقد مال ونوس إلى استلهام قواعد المسرح الملحمي بعد تحوله عن الفكر الوجودي واتجاهه نحو الاشتراكية العلمية ورأى أن المسرح الملحمي هو أصلح الصيغ التي يستطيع من خلالها طرح فكره الاشتراكي. وفي نفس الوقت إيجاد الشكل المسرحي الذي ينبع من تراثنا ويكون قريباً إلى نفس المتفرج العربي.
ولعل مسرحية «الملك هو الملك» هي خير مثال عن عمله في هذا النوع من المسرح، وهي مثل المسرحيات السابقة في هذا الخط «الفيل يا ملك الزمان» و«مغامرة رأس المملوك جابر» تتناول علاقة المواطن بالسلطة.
الملك هو الملك:
ويستلهم ونوس هذه التجربة من حكاية من حكايات «ألف ليلة وليلة»/ وتروي هذه الحكاية أن
هارون الرشيد قد ضجر ذات مرة، فقرر أن يصطحب وزيره في جولة ليلية، وأثناء تجوالهما سمعا رجلاً يتمنى الوصول إلى الحكم ولو ليوم واحد، حتى يحقق العدل ويقضي على الظلم فيقرر الخليفة أخذه إلى القصر ليجعل منه خليفة ليوم واحد. لكن ونوس لم يجعل قضيته تنتهي عند هذا الحد وإنما أضاف عليها، كما غير في بعض شخصيات الحكاية.
فأبو عزة الذي فقد ماله نتيجة لتآمر شهبندر التجار والشيخ طه عليه، لم يفقد ارتباطه
بطبقته، وحلمه الدائم أن ينتقم من الرجلين اللذين ضيعا ماله وجعلاه فقيراً حتى
اضطرت زوجته للعمل في البيوت من أجل تدبير معيشة الأسرة.
ويعيش مع الأسرة عبيد الثائر الهارب من السجن، وقد تنكر في هيئة متسول. وتقوم عزة
برعايته حتى تكتشف هويته وتقع في حبه. وهنا كما في حكاية «ألف ليلة وليلة» يصاب الملك بالضجر فيبحث عن تسلية من لون جديد، فهو يريد أن يداعب الناس ويسخر منهم.
ويخرج الملك مع وزيره للتجول في المدينة، ويذهبان إلى بيت أبي عزة ويجدانه مخموراً،
ويقنعانه بأنهما يرغبان في اصطحابه للمؤانسة، وفي قصر الملك يدسون لأبي عزة المنوم في الشراب، ثم يحملونه إلى مخدع الملك. ويشرح الملك لعرقوب، اللعبة التي يقوم بها مع سيده. وفي الصباح يستيقظ أبو عزة، ويجد نفسه في مخدع الملك ويأتي الخدم ليلبسوه رداء الملك، ومع كل قطعة يلبسها يقترب أكثر من شخصية الملك، أما عرقوب – خادمه – فلم يستطع تقمص شخصية الوزير، لأنه يعلم أن أصحاب اللعبة يراقبونه ويعرفون حقيقته، ويزداد تقمص أبي عزة لشخصية الملك، ويتمكن من إدارة الحكم بصورة تذهل كلاً من الملك الحقيقي ووزيره. فقد استطاع أن يكتشف أسراراً خطيرة يخفيها عنه مقدم الأمن، كانت تثير قلقاً لدى أعيان الدولة الذين يحاولون منذ مدة مفاتحة الملك بشأنها. وهنا يشعر الملك الحقيقي المتواجد في القصر بضياع خيوط اللعبة من يديه، فلا أحد في القصر يعرفه، حتى رجاله المقربون. ولم تستطع أم عزة أن تكتشف اللعبة ويحكم لها الملك الجديد بخمسمائة درهم، تجري لها سنوياً من مال الوزير الخاص على أن تساق عزة إلى بيت الوزير وله أن يتزوجها أو يأخذها جارية. وهنا يفقد الملك الحقيقي تماسكه، ويذهب إلى زوجته الملكة، لكي تجلو الحقيقة لكنها تنكره وتسخر منه، فيفقد عقله.
أما الوزير فيستطيع من خلال مكره، استعادة ردائه، ومركزه. وينضم إلى الملك الجديد
في إدارة الحكم بحزم شديد، وبمزيد من البطش.
ويظل التنظيم السري الذي يمثله زاهد وعبيد ينتظر التوقيت المناسب للصدام مع الملك،
وهنا يحاول ونوس الإجابة عن تساؤل فيما إذا كان ممكناً إصلاح نظام الحكم الفاسد
بتغيير الحاكم من فرد إلى سواه؟ وإجابته واضحة وهي أن تغيير الأفراد لا يغير
الأنظمة، فطريق الإصلاح تتطلب تغيير الأنظمة الفردية من قواعدها. كما أنه يرفض
تقسيم المجتمع إلى طبقتين، طبقة تملك الحكم وتحكم وتستغل الآخرين، وطبقة لا تملك
وبالتالي لا تحكم، وهي طبقة يقع عليها الاستغلال. وإذا كان المشاهِد بعيداً عن
الأحداث السياسية في الحياة العامة، فإنه من خلال المسرح يحاول «تسييسه» أو توعيته
سياسياً. والكاتب يقدم الأمل في المسرحية من خلال نماذج من الشعب تمتلك الرؤية الشاملة والوعي الذي يؤهلها لعمل شيء ما. وهذا ما نلاحظه في شخصيتي زاهد وعبيد.
ورؤية ونوس لمعاناة الشعوب في ظل أنظمة الحكم القائمة على الفردية وطغيان الملكية
تصدر عن منظور مادي جدلي. فهو يصور على لسان عبيد، كيفية ظهور مثل هذه الأنظمة بعد أن كان الناس يعيشون أحراراً في مجتمعات كان يعم فيها الخير على الجميع. ولاشك أن ونّوس في مسرحيته هذه يقودنا لطرح أسئلة مهمة تدور بمعظمها حول التالي: كيف لا نحظى بحق تقديس حريتنا.
المسرح التاريخي
منمنمات تاريخية:
خصص سعد الله المنمنمة الأولى للشيخ التاذلي وعنونها «الشيخ برهان الدين التاذلي أو
الهزيمة»، وثمة قراءتان لهذا العنوان، الأولى تقول بقرن الهزيمة العسكرية أمام جحافل
المغول بالشيخ المجاهد، هو قرن السبب بالنتيجة. أما القراءة الثانية فهي تلك التي تجعل جهاد الشيخ ذا منحى إيجابي بمعايير التاريخ مقارنة بمواقف رجال دين جشعين، وخانعين إلى درجة الخيانة، ومثالهم هو الشيخ ابن مفلح ومجموعته والتاجر دلامة ومجموعته ممن لا يهمهم الوطن والناس والدين بل أملاكهم الخاصة وأملاك الأوقاف التي يسرقونها بانتظام. كما يمكننا تلمس حالة المقاومة لدى الشيخ التاذلي والتي تبلغ ذروتها في استشهاده البطولي. في حين نرى مواقف وآراء العلامة ابن خلدون الاستسلامية الخانعة، بل والبالغة حدود الخيانة والتعاون مع العدو الغازي ورسم خريطة جغرافية للمغرب العربي مرفوقة بكتاب وصفي للبلاد وناسها وإمكاناتها بريشة ابن خلدون بناء على طلب تيمورلنك.
وفي نهاية هذه المنمنمة يستشهد الشيخ المقاوم برهان الدين التاذلي حاملاً سلاحه، ولكن عملية المقاومة والصمود في القلعة تستمر. ففي معركة واحدة قتل وأسر أهل
دمشق من المغول حوالي الألف غاز وغنموا الكثير من خيولهم. غير أن هذه المعركة لا تحجب حقيقة الهزيمة العسكرية القادمة بسبب موازين القوى وخذلان السلطان وتآمر التجار ورجال الدين، ولكنها أيضاً لا تحجب حقيقة انتصار الخط المقاوم على خط الاستسلام في المدى التاريخي.
أما في المنمنمة الثانية نرى ابن خلدون يختار الميدان الآخر لا ميدان المقاومة، فهو
يحاول تبرير عدم دعوته الناس للمقاومة، وانحيازه إلى تحالف التجار ورجال الدين
والأوقاف بنظريته الخاصة «علم العمران البشري». وها هو يقول لتلميذه وتابعه المصري شرف الدين: «ألا تعلم يا شرف الدين أن صبغة الدين حالت، وأن عصبية العرب زالت وأن الجهاد لم يعد ممكناً؟»، وحين يسأل التلميذ أستاذه: «أليس من مهمة العالِم يا سيدي أن ينير للناس ضوءاً أو أن يهديهم إلى سبيل يخرج بهم من الانحطاط؟»، يجيب ابن خلدون بالنفي ويضيف: «مهمة العالِم أن يحلل الواقع كما هو، وأن يكشف كيفيات الأحداث وأسبابها العميقة».
وتنتهي المنمنمة الثانية بانشقاق التلميذ شرف الدين على أستاذه ابن خلدون بعد عودة
هذا الأخير من زيارة الغازي تيمورلنك وتقبيله يده وامتداحه وتقديم الهدايا له. لقد
رفض شرف الدين التورط أو الوقوع في كمين الازدواجية واختار الانتماء إلى
قلعة دمشق التي صارت هوية المقاومة والحياة.
أما عنوان المنمنمة الثالثة فهو «آزدار أمير القلعة أو المجزرة»، وآزدار هو ذاته
الأمير عز الدين قائد المقاومة في قلعة دمشق. فمن جهة يفلح القضاة والأعيان والتجار
في شق ومن ثم تشتيت المقاومة داخل المدينة التي يدخلها الغزاة المغول ويعملون السيف
في أهلها، ومن جهة أخرى تستمر المقاومة في القلعة. يرسل تيمورلنك مجموعة من أعيان دمشق وقضاتها إلى القلعة في محاولة لإقناع المقاومين بإلقاء السلاح والاستسلام،
فيجرّد المقاومون أعضاء الوفد من ملابسهم ويهينونهم ويعيدونهم عراة إلى تيمورلنك.
يلجأ الغزاة إلى الحل الأخير وهو استخدام أعيان دمشق ومن تبقى حياً من أهلها في نقب
وحفر أسوار القلعة فيتم لهم ما أرادوا وتستباح المدينة وينتقم الغزاة من الجميع بمن
فيهم تحالف التجار ورجال الدين والأعيان الذين خانوا قومهم وآزروا الغازي.
وفي نهاية المسرحية تبرز شخصية الشيخ السجين جمال الدين الشرائجي الذي يؤتى إلى
مجلس تيمورلنك ليحسم أمره ويحكم في قضيته، فبعد أن حرمه الآخرون من شرف المساهمة في المقاومة يأتي تيمورلنك ليأمر بتنفيذ الإعدام في هذا «الكافر» فيُصلب الشيخ على يد الغزاة ويتقدم نحو مصيره المأساوي.
وهكذا نرى
سعد الله ونوس في هذه المسرحية يدعو المتفرّج إلى الوعي أنه ثمة حملة
ظلامية في التاريخ لاحظناها في العديد من مسرحياته، فهو يحدث وعياً لدى المتفرّج
ويقظة ضمير لتبني حقه في المقاومة في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية.
«لن يذكر التاريخ إلا العلم الذي أبدعته، والكتاب الذي دفعته. أما هذه الأحداث والمواقف العابرة فلن يذكرها أو يهتم بها إلا موسوس مثلك». كان هذا رداً على لسان ابن خلدون على سؤال طرحه تلميذه شرف الدين حينما سأله حول ما سيقوله التاريخ عنه (أي عن ابن خلدون) وهنا كان التلميذ يقصد السؤال عما سيقوله التاريخ بعد سنين عدة عن مواقفه السياسية، ووقوفه مع تيمورلنك. هذا الرد والذي كان ابن خلدون صادقاً في تكهناته حوله هو ما يطمئن المثقفين العرب الحاليين، فقد اكتفينا بمدح ابن خلدون والتعريف بنظريته والتذكير بإيجابياته، دون أن نسأل عن ابن خلدون الإنسان، وعن مواقفه خاصة حينما كانت دمشق تعج بالفوضى والاستنفار. فابن خلدون يتعاون مع تيمورلنك والسلطان يترك دمشق لحالها ويرحل، وهذا هو تماماً حال الكثير من المثقفين وأغلب الحكام.
فإنما
سعد الله ونوس قد انقلب على هذا السكوت العربي والتنزيه المشين، ومن خلال
مسرحيته هذه فإن ونوس يرجعنا للتاريخ لينتقده ويحلله، يحاول أن يجعلنا نعيد النظر
في تاريخنا، وأن يجعلنا نمارس نقداً تاريخياً للمراحل السابقة في حياتنا بشخوصها
ومثقفيها.
ابن خلدون كان بالنسبة لونّوس مثقف السلطة وشبيهاً بكثير من مثقفينا الحاليين، ولا
يجوز أن نشرع المديح على مصراعيه دون النقد الموضوعي. فالصراع في هذه المسرحية الرائعة هو مع الذات، مع التاريخ.
خاتمة
«في الكتابة نقاوم الموت وندافع عن الحياة». هذا ما كان يردده
سعد الله ونوس حتى الخفقة الأخيرة من حياته، ولا نستغرب إن كانت فترة صراعه مع المرض أغنى فترة في عمله الإبداعي. لقد كثّف ونّوس إبداعه خلال سنوات صراعه مع المرض بعدما قال له الأطباء أن أمامه فقط بضعة شهور ليعيش.
«إننا محكومون بالأمل». لطالما ترددت هذه العبارة على فمه، فقد تحول موته إلى قيامة، كالفينيكس نهض من الرماد وعاش في داخلنا، في مشاعرنا، وفي عقولنا من خلال أعماله الكبيرة. لا شك أن
سعد الله ونوس حي لم يمت. كلماته، مواقفه، آلامه، وآماله تبعثه حياً.
هكذا نتعلم من
سعد الله ونوس كيف نجابه الموت، كيف نتمسك بالأمل، وكيف نكون صادقين مع أنفسنا ومع الوطن، هذا الوطن، هذا العشّ الدافئ الذي وُهِبنا الحياة في حضنه، ووَهَبَنا هو بدوره روحه لنكون أمناءً عليها، مخلصين لها، ومدافعين عنها، من خلال إنسانيتنا ووعينا ويقظة ضميرنا.
«وهكذا رحل سيد المسرح العربي سعد الله ونوس، لكن سنين طويلة ستمر قبل أن تنجب
الأمة رجل مسرح له قامة ونوس، وحضوره وإبداعه سواء في الكتابة الدرامية، أو في سعيه الحثيث للتنظير للمسرح العربي، أو في علاقته الحميمة والداخلية مع الوجع العربي،
ومع الإنسان العربي، ومع همّ الوطن، أو جرأته في التنقيب عن عمق مشاكل المجتمع
وقدرته على التقاط المسائل الأهم، ووضع الإصبع فوق الجرح تماماً، ومحاولاته الفذة
لنكئ هذا الجرح لأنه كان يرى بعمق أن مهمة المسرح ليست الترفيه أو التسلية بل
التوعية، لا بالمعنى العابر للمفردة بل بما تحمله من مقدرة على إثارة التساؤلات، وتحريض الفكر، وملامسة هموم الوطن وخلق علاقة داخلية دافئة وعميقة بين الفن المسرحي كفن بصري، وبين الفلسفة والسياسة والمجتمع والتاريخ».