يتميز المدرج بالمهارة الفنية في هندسة بنائه وزخرفته ودهاليزه وأروقته وعقوده، وهذا ما يجعل منه نموذجاً فذاً للمسرح السوري، وهو من الناحية العلمية ذو قيمة رفيعة تعطي انطباعاً عن المهندسين السوريين وقدراتهم، وتعطي فكرة عن مخطط مدينة جبلة آنذاك وانتشار العمران فيها .
هو من المسارح ذات الطراز الخاص والأبعاد الواسعة ويتميز بالتنوع الكبير في مواد البناء المستخدمة في إنشائه، ومن حيث القيمة الثقافية للمسرح فإنها تكمن في كونه من أهم العناصر المعمارية والمدنية في المدينة التي مازالت مليئة بالحياة منذ العصر الفينيقي وحتى الآن.
ويرجح معظم الأثريين الذين زاروا المدينة ودرسوا بعض آثارها وأوابدها أنه شيد في العصر الروماني مطلع القرن الثاني الميلادي على أرض مستوية، ويرجح بعضهم أنه أقيم في عهد متأخر عن ذلك، وينسب بناؤه إلى الإمبراطور جوستنيان 493-565م .
قلعة حربية
وذكره معظم المؤرخين والجغرافيين العرب القدامى، وذكروا أن الخليفة معاوية بن أبي سفيان بعد أن فتح مدن الساحل، وكان بعضها قد خرب، أمر بجمع البنائين والنجارين والصناع، لبناء حصنٍ في جبلة خارج الحصن الروماني القديم. ويؤخذ من هذا القول أن الرومان ربما حولوه إلى قلعة حربية قبل الفتوحات الإسلامية للدفاع عن المدينة، لكن العالم الأثري (رونه دوسو) يعتقد أن معاوية لم يبن حصناً عربياً في جبلة، لكنه حول هذا المسرح إلى حصنٍ، وجلبت له الحجارة والأعمدة من مدينة بُلدة (عرب الملك) بعد أن كان المسلمون قد استولوا عليها في السنة نفسها التي اقتحموا فيها جبلة (17ه 638م) وكانت قد خُربَتْ وهُدمَتْ .
ويبدو أن المسرح بقي حصناً أيام البيزنطيين وفي العهود الصليبية والأيوبية والمملوكية، ويدل على ذلك بقايا أبنية ومرافق مختلفة ظهرت في أقسامه أثناء الحفر الذي قامت به المديرية العامة للآثار والمتاحف، أما المؤرخون والرحالة العرب الذين أرخوا لتلك المرحلة كالعماد الأصفهاني، وابن الأثير، وابن شداد، وغيرهم فاعتبروه قلعة حربية، وشذ عنهم شيخ الربوة الدمشقي إذ قال في أثناء حديثه عن جبلة:
وفيها مقر الملك الذي كانوا اصطلحوا عليه في زمن نوح عليه السلام وإبراهيم عليه السلام إلى زمن موسى عليه السلام، وقد تقدم ذكره في مدينتي عمان وجرش وبعلبك، وكان له سرب يركب الراكب فيه تحت الأرض إلى ظهر السفينة بالبحر، ويركب في السفينة إلى وسطه تحت الأرض محجوباً.
حيث يروى في جبلة بالتواتر ما رواه شيخ الربوة عن أحد السراديب الذي يعتقدون بوجوده في المدرج وينتهي إلى برج من الجهة الشمالية من الميناء، وبأن مغارة البابين المنقورة بالصخر هي نهاية هذا السرداب .
بني المسرح على ركائز وقواعد متينة ضخمة من الحجر الكلسي ومن أعمدة الرخام الرمادي الأحمر، ومن المرمر المعرق والمشرب ببعض الزرقة نقل إليه من مصر ومن مدينة صور، ويحيط به على شكل نصف دائرة دهليز واسع يبلغ عرضه أربعة أمتار، مسقوف بحجارة مقوسة طويلة قليلة العرض، نضدت بإحكام وإتقان مشكلة عقوداً متتالية، ومتدرجة في الميل والانحدار للأسفل مسايرةً ميل وانحدار صفوف المدرج الذي يرتكز على هذا الدهليز.
امتداد نحو الشرق
وللمسرح شكل دائري يبلغ قطره نحو 90 متراً ويتألف من ثلاثة أدوار، وتحمل عقوده 35 صفاً من المقاعد الحجرية تركت بينها مسافات تسمح لجمهور المتفرجين بالدخول إلى المسرح والخروج منه، ويستوعب المدرج نحو ثمانية آلاف متفرج، ويتألف من قسمين رئيسيين متقابلين، هما المدرج من الجهة الجنوبية منه، ومنصة التمثيل في الجهة الشمالية وقاعاته ويتوسطهما صحن مستدير قطره 5 .21 متر يتسع لنحو عشرة آلاف متفرج . أما المنصة التي تتصدر المسرح فقد بنيت على شكل مصطبة واسعة كانت في السابق محاطة بأعمدة مرفوعة على قواعد تعلوها تيجان كورنثية الطراز كما هو الحال في مدرج بصرى، ويتم الدخول إلى المسرح من خلال سبعة عشر باباً ضخماً تؤدي إلى الدهاليز، ثم ممرات تؤدي إلى كراسي الجلوس وهناك بقايا كثيرة كشفت عنها عمليات التنقيب الحديث توضح أن للمدرج امتداداً كبيراً نحو الشرق يعتقد أنها بقايا أماكن الإقامة والمنشآت الدفاعية، وقد كشف عن وجود أربعة أدراج تسمح بدخول الجمهور إلى المدرجات وكان الدرج الرابع المكتشف حديثاً مبنياً من الحجر الكلسي ذي الأحجام والقطع الكبيرة.
وقد عثر على غرف الملقنين في أرضية المنصة الرئيسية للمسرح الأثري من الجهة الشمالية على عمق مترين تحت مستوى المنصة والغرف بحالة إنشائية ومعمارية ممتازة، ويعتبر هذا الاكتشاف عملاً رائداً على مستوى العالم، خصوصاً أن معظم المدرجات العالمية الأثرية لم يتم العثور فيها على غرف الملقنين.