تكشف أعمال
الفنان التشكيلي عنايت عطار عن نموذج بارز من فناني الحداثة، حيث بقيت أعماله حاضرة خلال سنوات غربته في فرنسا منذ مطلع التسعينات. وأول شيء يلفت النظر في أعماله، هو كثافة حضور المرأة القادمة من مخزون ذاكرته الطفولية، مع اتجاه تعبيري اختزالي، تبدو معه الصياغة اللونية متحررة في اندفاعاتها وعلاقاتها الإيحائية، ولهذا تظهر الحركات واللمسات والضربات اللونية أشبه بإيقاعات موسيقية تأملية، تستفيد من حالات الاختصار والاختزال والدمج بين الخلفيات التجريدية وإشارات الأشكال، وخاصة المرأة وحيدة أو مجتمعة مع عدة نساء.
ألوان اللباس الشعبي
واللوحة التي قدمها عنايت عطار، خلال مسيرته الفنية الطويلة، تحمل إيقاعات بصرية تشبه إلى حد بعيد اندفاعات العواطف والإنفعالات.. ومن هذا المنطلق تظهر رموز المرأة بلباسها الشعبي منفردة أو مجتمعة كرحلة حلم في فضاء لوني تجريدي غنائي، فيه أحياناً لمسات شاقولية أو أفقية، إلا أنه يتجنب دائما التشكيل الهندسي, ويعطي اللوحة غنائية لونية متمازجة وغنية بالأضواء والأنوار الشرقية, ويتحول القسم السفلي من اللوحة في أحيان كثيرة وكأنه فسحة لأرض ماطرة أو مغمورة بالمياه، تنعكس عليها العناصر النسائية حصراً, وكل ذلك يعزز التشكيل الفني التعبيري والتجريدي، ويبرز لغة الضوء المحلي الحامل ملامح نورانية وروحانية.
هكذا تبدو لوحاته في أحيان كثيرة أكثر ميلاً نحو المناخ التعبيري والتجريدي، ولقد استفاد كثيراً من الغنائية والنورانية الانطباعية، دون أن يكون انطباعياً, وفي هذا الإطار يبحث عن تواصل مع تداعيات التلوين التلقائي، ويقيم علاقة تحاور وتجانس بين الشرق والغرب.
وهو وإن كان يذهب إلى لونية متداخلة بحرية وعفوية، إلا أنه يقدم في النهاية لوحة متمكنة من ابتكار نسيج بصري حركي يتخطى الرؤية التقليدية، ويؤكد خبرته التقنية، التي تزيد من حالات تحسسنا لإيقاعات جمالية حديثة ومعاصرة، فاللمسة اللونية السريعة تطل في لوحاته كحركة وجدانية, وتحقق رغبة بإضافة الحركة والحيوية في فراغ السطح التصويري أو على وتيرة الألوان المتراكمة فوق بعضها البعض.
وهو يركز لإظهار التمازج اللوني، أكثر مما يعتمد على التعبير اللوني الصريح, الذي يعمل دائماً على تجنبه، وفي لوحاته الأحدث، يبدو أكثر ميلاً نحو التجريد، والاعتماد على التعبيرية الذاتية. وهو مهما انفعل, يبقى على ارتباط باشارات الواقع، أي أن الأشكال غابت عن بعض لوحاته الجديدة وبقيت إشاراتها المبسطة والمختزلة والدالة عليها، حيث يبدو التجريد أحياناً منطلقاً من الطبيعة أومن ألوان اللباس الفولكلوري, المختزنة في ذاكرته منذ أيام طفولته وفتوته. قوة الاختزال
واللون في لوحاته الأحدث أصبح أكثر نضجاً وحرارةً وحيويةً وجماليةً، إنه انعكاس اللون على ذاته، ولهذا نجده يبحث بشكل يومي عن الانسجام بين الحركة واللون، يبحث عن ذلك الجو الغنائي الذي يعتمد كثيراً على حساسيته وحريته في وضع المادة اللونية, وهو يمحي الخطوط, ويصبح الخط هو الحد الفاصل بين مساحة وأخرى, فالخط في مشاركته للمساحة اللونية يمنحها معناها التفاعلي البصري مع الإيقاع والحركة.
ولوحاته تظهر مقدرته وحساسيته, وتؤكد عشقه المتواصل للنور والوهج الشمسي المتتابع في فضائية حركة اللون العفوي، وهو في كل مرة يعود إلى الايقاع النابض والمتراقص، أكثر من الاهتمام بإبراز دقة العناصر وأناقتها الواقعية. وهكذا يتجه في تصوير الطبيعة المحلية لإضفاء المزيد من المشهدية البصرية الاحتفالية، وبالتالي يدخل عين المشاهد في حوارية زاخرة بالإغراء اللوني والضوئي المثير.
وما هو لافت في لوحاته تلك التقنية اللونية التي تتسع للكثير من الطرب الإيقاعي، إذ لا يكتفي بوضع لمسته اللونية المتوهجة بالضوء، وإنما يميل بضرباته المتلاحقة والمتجاورة لتكثيف الموسيقا اللونية المسموعة بالعين في مساحة اللوحة، واللمسة اللونية ترتكز على خبرة وحساسية في التعاطي مع المادة اللونية, حيث يجيد تطويعها وينوع في إظهار درجاتها اللونية القزحية والإشعاعية التي تنفتح على الضوء المحلي الساطع.
إيقاع لوني راقص
فمن خلال هذه المزاولة التقنية الحديثة يبحث عن جوهر العلاقة القائمة بين عفوية اللون وشاعرية النور وإيقاعات اللمسة المتوازنة, التي تضفي نوعاً من الكثافة اللونية أحياناً على سطح اللوحة المفتوحة على مظاهر التكوين الحديث، الذي ترسخ وتجذر وتنوع أكثر فأكثر في تجربته إثر تفاعله مع المحترفات الفرنسية.
وتبدو الأشكال الإنسانية في لوحاته بهيئتها الاختزالية زاخرة بمظاهر الخيبة واليأس، ومعبرة عن مرارة وتردي الواقع الإنساني، لا سيما وأنها تبرز بلا ملامح على أرضية مغمورة بالضوء أو باللون المتوهج، الذي يشف أو يسمك، وتتداخل الأشكال الإنسانية الواقفة والجالسة، وصولاً إلى مشاهد الطبيعة والمدينة وغيرها.
وهذه العلاقات اللونية تخفي وراءها المعنى الحقيقي للإشارات والدلالات والرموز، لا سيما وأن بعض لوحاته الجديدة، قد تميزت بالبحث التقني، الذي يشير إلى رغبته في الانسحاب من الواقع، والإبقاء على اشاراته ودلالاته اللونية الدالة عليه, وبذلك أصبحت التجربة مهيأة لوضع عناوين جديدة لتجاربه التشكيلية الأكثر جرأة ومغامرة والسؤال: هل سيستمر في طريق المغامرة البارزة في بعض لوحاته الأحدث الأكثر عفوية وتلقائية وتجريدية بالقياس الى أعماله السابقة, أم أنه سيعود إلى واقعيته التعبيرية المجسدة لعناصره التعبيرية الإنسانية عبر بروز التداخل اللوني التلقائي والمباشر.