باولو كويلو .. ذلك الهيبي

الأحد 10 مارس 2019 - 10:11 بتوقيت غرينتش
باولو كويلو .. ذلك الهيبي

من خلال التمرد على معايير الرأسمالية والحياة الاستهلاكية، يُظهر  كويلو القلق الوجودي للهيبيين الغارقين بشعورهم الطويلة و لحاهم الغير مشذّبة  وموسيقاهم الصاخبة. في روايته "هيبي"، يخرج الروائيّ البرازيلي باولو كويليو من بين جدران سجنه على يد الديكتاتورية العسكرية البرازيلية محاولاً النجاة بنفسه، عبر الانخراط في درب الروحانية آملاً إنقاذ ذاته الغارقة في البعد الإنساني والذي خلّفَتهُ نظم الحياة المعاصرة، الأمر الذي يدفعه للعيش بأسلوب بسيط وعشوائي في محاولة للتحرر والولادة من جديد . ومن خلال العودة إلى فترة الانتفاضة على الأعراف السائدة في أميركا في سبعينات القرن العشرين، بدءاً من عام 1969، والتي عرفت باسم "الهيبية"، يصفُ الكاتب مجموعة بشرية حرصت على الابتعاد عن العالم المادي، وخلق نمط عشوائي، ثائر، متمرد على القوانين المجتمعية حتى في أساليب الطعام واللباس، كالاعتماد على الأغذية النباتية والطب البديل. وكمن يعود لخلق نفسهِ من جديد، يستعيد الكاتب قصة الشاب "باولو" الحالم، ذي الشعر الطويل، والذي تمنى دائماً أن يكون كاتباً، مسافراً عبر العالم هرباً من حياة يراها ضيقة، ونظم تحرم الإنسان إنسانيته، ليصف نشأة حركة الهيبيين في جميع أنحاء العالم، بعد أن انتشرت أساليبهم من مدينة نيويورك عام 1969 على شكل قبائل ترتدي ملابس صارخة بالحياة، يعزفون الموسيقى، ويناقشون بلا قيد، جميع قضايا التحرر والوعي السياسي، ليُشكّلوا نموذجاً لجيلٍ أبغض الحياة المعاصرة، ورفض في ذات الوقت سبل العيش على طريقة الآباء والأجداد، فخرج لا يشبهُ شيئاً إلا ذاتهُ . "كويليو الماهر في اكتشاف الذات البشرية، والخبير بالغموض الذي يجذب القراء ويحاكي خيالهم، ومن خلال السرد الروائي، يُبيّن الهيبيين كمجموعات لا يحكمها حاكم، بلا قوانين ومعايير سوى التحرر من كل شيء، وتعميم قانون جامع أساسه نشر الحب ورفض الحرب، ليعكس بذلك عقائدهم النقية والتي بادلَتْها مجتمعاتهم بكيل اتهاماتٍ ظالمة وتشريع أحكام مسبقة حيال الهيبية كأسلوب عيش مرفوض ومبتذل، لتظهر عبر الرواية كمجموعات تصارع لفرض نفسها في قلب مجتمعات ممسوسة بالحداثة الباردة برودة المعدن البعيد عن العمق الإنساني الدافئ . ومن خلال التمرد على معايير الرأسمالية والحياة الاستهلاكية، يُظهر الكاتب القلق الوجودي للهيبيين الغارقين بشعورهم الطويلة ولحاهم الغير مشذّبة وموسيقاهم الصاخبة، لينقلَ القارئ من بين زنزانة سجنه في البرازيل إلى الانخراط في عالم رحب فسيح في أوروبا – هولندا – ليتعرف هناك على كارلا الفتاة المفعمة بالحياة، الباحثة عن الحب، لتأخذه وإياها على متن ما سمّاهُ "القطار السحري إلى نيبال"، في رحلة محفوفة بالمخاطر، كمن يقف وجهاً لوجه مع القدر، مع مجموعة لا تبحث عبر السفر إلا عن الحياة، فتتنقّل عبر المدن الآسيوية والأوروبية بحياة قبليّة بسيطة بعيدة عن الشعور بالتسلّط، باحثة عن العمق الروحاني البشري. "الحلم أمرٌ لا يُمكن التنبؤ به وهو خطيرٌ على أولئك الذين لا يتحلّون بالشجاعة ليحلموا". بهذه المقولة يبرر كويليو هوس الهيبيين بالحرية والانفتاح والعشوائية بلا قيد في سبيل معرفة ما يعتمل في نفوسهم، وبما يشبه السيرة الذاتية ضمن قالبٍ روائي خالص، معلناً أمام قرائهِ دونما وجل، صارخاً؛ "نعم .. لقد كنتُ هيبيّاً". بل يكاد القارئ يشمّ ما بين السطور رائحة الاعتزاز بما عاشه الكاتب وجرّبه، من ارتداءٍ لملابسَ بسيطة غير متناسقة الألوان، إلى اختيار دليل "كيف تتنقل في أوروبا بخمس دولارات في اليوم"، مع حرصه على التنقل مجاناً وارتياد الأماكن التي تقدم الطعام المجاني، ليظهر ذاك الشاب اليافع جالساً على رصيف مدينة أوروبية غير آبهٍ بما يقوله الآخرون عنه، متذكّراً تفاصيل رحلة تكاد تشابه ارتحال قوافل النوق قديماً على طريق الحرير بكلّ ما فيها من بدائية، باستثناء أن الوسيلة في التنقل هنا هي حافلةٌ بلا أية ميزات حداثية، غير مكترثٍ بالأحكام المسبقة ولا بترهات النقاد الذين وصفوا حياته على تلك الشاكلة بالفوضى والسوادوية والتقرب من مهووسي المخدرات والعقاقير . ومن بين جدران زنزانة عاتمة في بلده، حيث لا نور ولا قبسٌ للحياة إلا داخلَهُ، يجدُ القارئ باولو الشاب متمسكاً بالحياة إلى أبعد الحدود، وعلى طريقة النُّسّاكِ والزاهدين، إلى جبال الآنديز مع حبيبةٍ شيوعية يوغسلافية، تكبره بعشرة أعوام، مضطراً بسبب مرافقته لها إلى التعرّض للحجز والتفتيش في فترة كان فيها العالم يناهض الحركات الشيوعية، ليفترق عنها وينتقل إلى أوروبا – هولندا – راغباً كل الرغبة أن يكتشف العالم من حوله، أملاً في اكتشاف ذاته من خلال الارتحال، ليحمله القدر بعدها لمرافقة كارلا إلى مجموعة الحافلة السحرية المتجهة إلى نيبال، فيلتقي من خلالها بأشخاصٍ تعجُ بهم ذكرياتهم، مدفوعين مثلهُ إلى السفر على تلك الحال البسيطة، واصفاً إياهم، رغم بساطتهم، أنهم لم يكونوا عاديين، بل كانوا من الجامعيين، والمدراء، والعارفين بشؤون الحياة والإنسان. كانوا أشخاصاً خبروا الحياة، وحتى القُصّار منهم، هربوا من عالمهم الذي عتّم على ذواتهم، إلى عالم لا قيد فيه ولا نصل سوى الحرية، راغبين على غرار الكاتب الشاب، أن يكتشفوا العالم وأنفسهم قبل ذلك، بعد أن يسرد تفاصيل حياة كلًّ منهم على حدة، مفصلاً التجارب التي دفعتهم مثله إلى الاغتراب عن عوائلهم من مثل ما تعرض له في السجن، كإصابة بمرض خطير، أو فقدان محب عزيز، أو تمرد على عالم كل ما فيه مكبّل ومضجر . ويبقى التساؤل الأعمق حول الرواية، هل كان كويليو يروّج من خلال إعادة إحياء مجموعات خارجة عن الضوابط الاجتماعية لخلق إنسان جديد؟ وهل كانت بذور "أيلول الأسود" التي نثرها عبر السطور احتجاجاً صارخاً على كل ما يستهين بالحقوق البشرية المسفوحة على هذا الكوكب؟ وعبر وصفه للمخدرات التي استخدمها بعض أفراد المجموعة كمضخمات للوعي، هل قصد إظهارها كما لو أنها مسحة يد الشيطان التي تمنع خروج أي تجربة عيش بشرية صافية بشكلٍ خالص؟ هي رواية عن الحب، والحياة، والحلم، وكعادته كويليو يركّز على أن الصواب سبيل لتحقيق الحلم، من دون أن يتغافل عن زجّ هوسه الصوفيّ في جميع أعماله لتنضح سطوره في كل مرة بمقولة "الله في كل مكان"، وأنّ التوحّد مع الذات الإلهية بروحانية عالية هو الطريق لمعرفة أنفسنا قبل معرفة الآخرين .

جميع الحقوق محفوظة لقناة العالم سورية 2019