وأوضح خبير الآثار السوري المؤرخ وقارئ النقوش الكتابية القديمة في المديرية العامة للآثار والمتاحف الدكتور محمود السيد أن الطيور المهاجرة تشكل”جزءا من الإرث الثقافي السوري”ومادة حية في التراث والفن والأدب مبينا أن اللقى الأثرية وبقايا عظام الطيور المكتشفة في مختلف المواقع الأثرية السورية توثق اهتمام السوريين بمتابعة الطيور المهاجرة منذ العصر الحجري الحديث “النيوليت”.
ويبين السيد أنه في موقع تل بقرص الأثري الواقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات اكتشف في أرض أحد بيوت الموقع رسم باللون الأحمر لطيور الكركي على خلفية بيضاء ينسب إلى العصر النيوليتي ما قبل الفخار الحديث ما بين ثمانية آلاف وتسعة آلاف سنة وقد صور الطائر برأس أقرع وعنق ومنقار طويلين وساقين طويلتين ورفيعتين اضافة الى مجموعة أخرى من طيور كركي تقوم بعروض الغزل الراقصة.
ووفق السيد فإن الرسام تعمد التركيز في رسمته على إظهار الأصابع الأمامية الثلاثة لطيور الكركي المرسومة وهذا ما يؤكد بالدليل المادي أن الرسم لا يصور طائر النعام أو الوز الأقصر عنقا وساقا ومنقارا.
ويشير السيد إلى أنه يعيش في سورية منذ آلاف السنين في موقع بئر الهمل في حوضة تدمر بالبادية السورية أعداد كبيرة من النعامة السورية المنقرضة والتي ينحدر من سلالاتها اليوم كل النعام العربي فقد عثر في الموقع على كميات كبيرة من بقايا عظام وبيوض النعام السوري تؤرخ بالعصر الحجري.
ويبين السيد أنه تم في موقع تل مرديخ الأثري مملكة ايبلا وفي جنوب العراق اكتشاف أقدم قواميس في العالم تتضمن أسماء طيور مهاجرة ومقيمة تؤرخ بالنصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.
وفي موقع المشرفة الأثري “مملكة قطنة” في حمص اكتشفت وفق خبير الآثار الكثير من بقايا عظام الطيور المائية المهاجرة المؤرخة بالألف الثاني قبل الميلاد كالإوز والكركي والبط بأنواعه والإوز القزم والتي لا تعيش إلا في المياه الضحلة ما يؤكد وجود منطقة رطبة مؤلفة من حقل واسع من المياه قليلة العمق التي تغطي المروج بارتفاع عدة سنتيمترات فقط وتشكل بذلك وسطا مناسبا لاستراحة الطيور المائية المهاجرة.
ويضيف السيد أنه في موقع رأس الشمرا الأثري “مملكة أوغاريت” اكتشفت بقايا عظمية تنسب إلى عدد من الطيور المهاجرة كالبط والوز والترغل وغيرها كما تشير المصادر الكتابية المدونة بالمسماري الأبجدي الأوغاريتي والمؤءرخة بالقرن الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد إلى اصطياد طائر الترغل وتقديمه كقرابين للآلهة.
ويبين الباحث أن أهم الطيور المهاجرة المارة بسورية هي القواطع المهاجرة التي تعبر من أوروبا وآسيا الغربية متجنبة برد هذه البلدان إلى البلدان الحارة كشبه الجزيرة العربية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى سعيا وراء القوت والدفء.
ومع اقتراب الموسم الدافئ في أوروبا وغربي آسيا رجعت هذه القواطع إليها لتمر من سورية مرة أخرى فسورية وفق الباحث السيد تقع ضمن ثاني أهم مسار لهجرة الطيور الحوامة في العالم ضمن مسار الهجرة على طول الانهدام العربي الإفريقي الذي يبدأ من تركيا إلى البحر الأحمر وشرق أفريقيا مرورا بسورية وأهم الطيور الحوامة “أبو منجل الأصلع الشمالي والذي لا يزال يعبر سورية بأعداد قليلة والعقاب الأسفع الكبير وملك العقبان وعقاب السهول والحدأة السوداء والصقر الحوام وصقر الغزال”.
وكذلك نشاهد في موسم الهجرة اللقالق بأنواعها والكراكي التي تمر معظم أسرابه بأطراف الساحل السوري باتجاه أفريقيا عبر مصر والسودان والإوز وأشهرها الأغر والبط أبيض الرأس النادر عالميا والبط الغطاس والأسود والفرفور والبط الأحمر والخضري والقطا الذي استوطن سابقا في سورية والسنونو الخطاف والورور والزرعي والسمن والكدري والدحروج والفري والبيوض والترغل والمطوق والقمحي وعصفور التين وأبو الحن والزرزور وطيور الفطيفل وطائر النحام الوردي الكبير “الفلامنغو”.
وأشار الدكتور السيد إلى أن تعليمات الهجرة “موجودة في الجينات الوراثية للطيور” وأن الهجرة تسمح للطيور بتعزيز توازن الطاقة في أجسامها والطيور” تتحضر للهجرة كما يتحضر الإنسان للسفر” فتقوم الطيور قبل الهجرة بتبديل الريش المتقصف والمتكسر بريش جديد وتتغذى بشكل جيد حتى تصل إلى ضعف وزنها وتخزن الكثير من الدهون والتي تحولها بشكل مذهل إلى طاقة خلال رحلتها الطويلة وخاصة خلال هجرة الخريف وهذا ما يفسر علميا عدم قدرة الطيور الضعيفة والنحيلة على الهجرة.
وتؤكد الأبحاث العلمية الحديثة الصادرة عن المراكز التخصصية بدراسة الطيور وخصائصها وبنيتها الفيزيولوجية في أوروبا وخاصة في ألمانيا والسويد أن الطيور المهاجرة تتعرف على الطريق الواجب سلوكه أثناء الهجرة في الربيع أو الخريف والتعرف على أماكن التعشيش المناسبة استكمالا لدورة التكاثر من خلال بروتين موجود في الدماغ والعضلات والعين يسمح لها بالاستدلال المغناطيسي لمجال الأرض كما تعتمد على المعالم المرئية والروائح ثم تتبع المكان المراد الهجرة إليه في الليل أو النهار عن طريق النجوم وضوء الشمس مستخدمة بوصلة مغناطيسية تعتمد على الانحرافات البسيطة في الضوء.
ويمتلك الطائر في عينه بروتينا حساسا للضوء الأزرق يتيح للطير رؤية المجال المغناطيسي للأرض ويحدد له مسارات الهجرة وتصحيح المسار إذا ضل الطريق ويمنحه القدرة على التنقل أثناء الليل حيث تستخدم الطيور شبكية العين لتعرف الانحراف في الضوء الناجم عن تغير زاوية الميل المغناطيسي طبقا للقرب أو البعد من القطب الشمالي للأرض وبالتالي تستطيع تحديد الانحراف الزاوي بين الشمال المغناطيسي والشمال الجغرافي بدقة متناهية.
ويرى السيد أن التبدلات المناخية في العالم دفعت أنواعا من الطيور المهاجرة على تغيير مسارها واللجوء إلى الأراضي السورية والتي أصبحت اليوم موئلا مهما للعديد من الطيور الزائرة لاستكمال دورة التكاثر كالعقاب الذهبي وطيور الفلامينكو “النحام” وصقر العسل.
وتوجد في سورية عدة محميات تشكل محطات سنوية في طريق هجرة الطيور وفي تأمين معابر دائمة وغنية للعديد منها ولا سيما تلك التي تأتي من شمال أوروبا وآسيا متجهة إلى الجنوب الإفريقي أو العربي وحتى شرقا إلى الجنوب الآسيوي.