غالباً لا تقبل المسلّمات كثيراً من الاجتهاد، ولا حتى القليل منه أيضاً، إلّا في حدود ضيقة تتعلّق بتطبيقاتها لا بتغييرها.. وأمامنا اليوم مسلّمة “عملاقة” اسمها خارطة طريق إعادة الإعمار، ويا له من عنوان محيّر للوهلة الأولى، وبسيط في التقاط ما ينطوي عليه من تراتبية تفاصيل بعد قليلٍ من التمعّن.
من هذه النافذة الصغيرة – التفاصيل- نبدو أمام مشهدٍ واسع الطيف، مفعم بالاستحقاقات المتنازعة على الدور في حساب الأولويات، وبشكل علينا الاعتراف بأنه مثير للهواجس إزاء أي خلل ولو بسيط في الترتيب، وبالتالي الانطلاق في الاتجاه الخاطئ، حيث تكون “الغلطة بكفرة” كما يقول المثل الشعبي، فنحن أمام مشروع مصيري، عبره سيصار إلى إعادة تشكيل الهويّة الجديدة لسورية على المسارات كافة، وإن تصدّر المشهد العمراني والاقتصادي واجهة الملامح الجاري رسمها والمفاضلة بينها ولو عفوياً في الوقت الراهن.
بالفعل قد لا نتأخر لنجد أنفسنا في مواجهة مع الحيرة في الاختيار بين هاتين الأولويتين المتسابقتين على موقع الصدارة.. العمران والاقتصاد، فإن بدت الأولى شديدة الجاذبية، تبدو الثانية شديدة الإلحاح، ولعل في ذلك حسماً موضوعياً، لأن الاقتصاد الإنتاجي من شأنه إتاحة تنمية عمرانية، والعكس غير صحيح إطلاقاً.
في هذا السياق تبدو الهواجس مشروعة، من عدم إفصاحنا الصريح عن خطة الإعمار الاقتصادي، حتى ولو تلمّسنا قرائن انطلاقة حقيقية في هذا المضمار، إلّا أن إغراء الاستثمار في العمران يستقطب رساميل “نزقة” تتطلّع إليه كفرصة من ذهب، ويقدّم أصحابها أنفسهم في أثواب امتيازية، من الطراز الاستفزازي الذي يطمس معالم أية خطوة حكومية بنّاءة، ويسهّل المهمة كثيراً على هواة الصيد في الماء العكر، وهم كثر عادة في مثل هذه المراحل الحسّاسة من حياة الشعوب والدول.
من الآخر.. الاستثمار في مجمعّات إسكان “النخب المترفة” يجب ألّا يكون متاحاً في السنوات الأولى لما بعد الأزمة، حتى ولو كانت أموالاً خاصة، لأنها في المحصّلة أموال وطنيّة يجب أن تتسق مع المشروع العام، وتتجه نحو الميدان التنموي الإنتاجي، كما أننا في غنى عن الاستفزازات التي تحدثها النهضة العمرانية المبالغ فيها، خصوصاً في طقوس الفقر والمجتمعات الخارجة من الأزمات، ومنذ يومين استخدم بعضهم هذه الورقة لإفشال مشروع مجمع تنموي حرفي بديل لآخر عشوائي، يشوّه الهوية البصرية لأقدم عاصمة مأهولة في التاريخ؟!.
إن اتفقنا على التوجّه بكامل الطاقات نحو التنمية الاقتصادية، فعلينا أن نعلن ذلك بما يشبه “النفير العام”، وتجيير كامل الموارد في هذا الاتجاه، مع تجميد كل المسارات الاستثمارية الأخرى إلّا بما يلبي ضرورات، والضرورات لها معاييرها التي لن نختلف عليها بتاتاً.
وفي تفاصيل مثل هذا التوجه لا بد من خارطة أفقية لنشر التنمية الإنتاجية، تضمن استثمار كل مورد متاح، ولو في أقاصي الأرياف السورية، لتجاوز سقطة التركيز على المدن التي أُشبعت حتى التخمة.. صناعة وتجارة وعمارة، وأيضاً عشوائيات سكنية وسلوكية وحياتية بالمفهوم الشامل للكلمة.
وعلينا أن نعلم أن ثمن عمارة واحدة في العاصمة أو مدينة أخرى، يمكن أن يموّل 500 مشروع متناه الصغر، يعيل 2500 شخص على الأقل، بما أن الإحصاءات تشير إلى أن متوسط عدد أفراد الأسرة السورية أكثر من 5 أشخاص، وبالطبع النسبة في الأرياف وضواحي المدن والمناطق أكثر.
باختصار.. الإنتاج يعني الكفاية ثم العائد التصديري، ويعني محاربة الفقر والبطالة، وما ينبثق عنهما من مشكلات اجتماعية، بدأت تتفاقم في مجتمعاتنا بشكل ملحوظ، ويعني العمران والسياحة والخدمات لاحقاً، لكنه الأساس الذي إن تجاهلناه تجاهلتنا التنمية، لأننا نكون “رفسنا النعمة”.
ناظم عيد / صحيفة البعث