يعمل في هذه الصناعة عشرات الصناع الذين يستوردون صفائح النحاس من أوروبا والصين وجنوب شرق آسيا ومصر، ويطرقونها في حوانيتهم، ويصنعون منها أواني مختلفة الأشكال حسب الحاجة تتنوع من الطناجر والمناسف العربية والحلاّت وأواني القلي والمصافي النحاسية، إضافة إلى بعض الأواني والتحف الجديدة، كما تتم صناعة السيوف ومناقل الجمر وبعض أنواع الصواني المزينة والمزخرفة، ودلال القهوة العربية والمصبات والمكاحل وغيرها.
ويقوم بهذه الصناعة “النحاسون” الذين تجتمع محال معظمهم في سوق واحد يسمى بـ “سوق النحاسين”، ويتصف أولئك الصناع بالدقة والمرونة والحس المرهف والذوق السليم.
حرفة صناعة النحاس في سوريا موزعة إلى اختصاصات على أفراد الورشة الواحدة، أو على عدد من الورشات بمعنى أن حرفياً ما قد يقتصر عمله على (التخطيط والرسم) وآخر على (تنزيل الذهب والفضة) وآخر على (التجويف)، وآخر على (النقش) وآخر على (التخريق) وهكذا، ونادراً ما تجتمع هذه الخبرات كلها لدى حرفي واحد.
ويتقن أغلبهم أصول (الرسم والخط) إضافة إلى اختصاصاتهم في مجال الحرفة، وهناك أيضاً أرباب صناعة الصب والسكب (أي صهر النحاس وسكبه في قوالب تأخذ أشكالاً مختلفة)، لكن ومع انخفاض عدد رواد سوق النحاسين، ما زال عدد من الحرفيين الشباب يعملون في محلاتهم وورشهم بينما غاب عنه أغلب كبار السن من “المُعلمِين” في تصنيع النحاس الذين يعملون بها منذ مئات السنين وتعلموها من آبائهم وأجدادهم.
وتتواجد هذه الصناعة في أغلب المحافظات السورية في ما يسمى “سوق النحاسين”، حيث توجد في دمشق في سوق النحاسين في شارع الملك فيصل بالعمارة، وفي حلب في خان شونة، كما يوجد سوق للنحاسين في كل من حمص وحماة ودير الزور.
ونشأ هذا السوق منذ مئات السنين، عندما كان السوريون يعتمدون على النحاس المصنع والمحول إلى مستلزمات وأوان للمطبخ والموائد والبيوت وغيرها، وكان التجار يستوردون صفائح النحاس من الخارج ويطرقونها في محالهم لصناعة مختلف أنواع الأواني النحاسية.
من الصعب تحديد المكان الذي صنعت فيه أولى الأدوات النحاسية، والشيء المؤكد أن هذه الصناعة تطورت في أحد مراكز العصر الحجري الحديث في الفترة من حوالي 7000- 6000 ق.م، وترجح المصادر إلى أن تصنيع النحاس بدأ في مصر والعراق ومما يدعم هذا القول وجود قطع نحاسية قديمة فيهما بالإضافة إلى وجود مناجم للنحاس في سيناء.
وكان السوريون يعتمدون على النحاس المصنع والمحول إلى مستلزمات وأوان للمطبخ والموائد والبيوت وغيرها، غير أن مكانة السوق أخذت بالتأثر منذ حوالي ثلاثين سنة مع انتشار بدائل النحاس مثل البلاستيك والألمنيوم والفولاذ المقاوم للصدأ في مجال مستلزمات البيوت والمطاعم والفنادق، ومع تراجع مكانة السوق قل الطلب، وتناقص عدد الحرفيين.
ومن مراحل هذه الصناعة الدق والنقش والتنزيل والتخريم، حيث يتم تنزيل أسلاك دقيقة من الذهب أو الفضة بعد تسنين مكان النقش بحيث تبدو فيه القطعة وكأنها من الذهب أو الفضة، وبعد الانتهاء تكشط بقايا الذهب والفضة البارزة ثم تصقل القطعة بكاملها، وهناك تخريم النحاس وتفريغه، بتثقيب الرسوم التي يرسمها الرسام بأشكال هندسية ونباتية وزخارف تحوي آيات قرآنية وأشعارا.
وهناك صناعة النحاس المغشى بالميناء الزجاجية، حيث ترسم مختلف الزخارف النباتية وغيرها من الكتابات بألوان متناسبة وتطرز بخطوط ذهبية أو فضية، ثم تملأ بمسحوق المينا الزجاجية كل لون بمفرده، ثم تترك حتى تجف ومن ثم تشوى بالفرن، فتذوب المينا وتعشق بالنحاس ومن ثم تبرد وتنظف بحمض الكبريت وتفرك بالرمل فيعود للنحاس بريقه من خلال لمعان المينا الملونة.
وما يميز المنتجات النحاسية أنها تباع بالكيلوجرام لا بالقطعة كما هو الحال مع الأواني المعدنية والزجاجية والفخارية وغيرها، فيصنع الوعاء النحاسي ويعرض في الدكان، وعندما يأتي الزبون لشرائه يوزن وحسب ما يزن يحسب سعره، وهذا أسلوب قديم يتعامل به حتى الآن، خاصة بالنسبة للأواني المخصصة للطعام.
وشهد النحاس منافسة كبيرة من قبل الأواني الحديثة المشابهة بسبب رخص ثمنها مقارنة بالنحاس الذي يتميز بسعره المرتفع خصوصاً في الفترة الأخيرة نظراً لقلة المشتغلين فيه، بالإضافة للقطع النحاسية المستوردة والمصنعة آلياً التي تباع بأسعار أقل من اليدوية مما يشكل منافسة للحرفي الذي يضطر لإنتاج قطع ذات قيمة فنية قليلة وبسعر أقل للمضاربة في السوق ما يؤثر سلباً على حرفة النحاس التي اتسمت على مر الزمان بجودتها واتقانها وقيمتها الفنية العالية.
ورغم ذلك لا يزال النحاس حاضراً لما يحمله من قيم تراثية، حيث لا يزال يقتنيه الكثير من الأشخاص لأنه يدوم لمدة طويلة وللتباهي به أمام الضيوف، كما أنه يلقى رواجاً عالمياً حيث يصدر إلى بعض الدول العربية ودول الخليج وبعض الدول الأوروبية.
وتعتبر صناعة النحاس من المهن التراثية التقليدية التي تعتبر جزءاً من التراث الشعبي وجانبا من الذاكرة الاجتماعية والثقافية، حيث أبدع النحاسون السوريون في هذه الصناعة، ولا تزال منتجاتها منتشرة في أهم معالم دمشق، مثل ثريات جامع العثمان، أبواب وثريات جامع الأكرم وفي كثير من البيوت العربية القديمة، ومتاحف التقاليد الشعبية، وأسواق المدن السورية، وحوانيت الصناعات التقليدية.