إن تحدثنا عن شاعر استثنائي فالحديث ينطبق على عدد محدود من الشعراء، وفي مقدمتهم محمد الماغوط، فهو شاعر وإنسان مختلف بحق، هو شاعر يحمل سمة الطزاجة والبساطة، وهو شاعر متنور ومستشرق وخارج السياق الزمني والمكاني.
في الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة الهيئة العامة للكتاب بعنوان: “وقائع ندوة الأربعاء
محمد الماغوط في مدن الغرباء” إعداد وتوثيق د.إسماعيل مروة ونزيه الخوري، جاء في مضمون المقدمة من قبل لجنة الندوة: جاء
محمد الماغوط من سلمية سورية، ليكون نتاج المختلف والمتساوق مع مجلة شعر وأهدافها وغاياتها ليصبح الصوت المتميز الذي يطبع المجموع بطبعه، وليتحول إلى رمز من رموز القصيدة الحديثة، وليصبح كذلك نموذجاً لكل من أراد أن يسير على المنهج نفسه شعرياً وفكرياً، لكنه في وجوده وبعد رحيله بقي الماغوط متفرداً في قصيدته، ونموذجاً يصعب اللحاق به، فالفرق كبير بينه وبين شعراء القصيدة الحديثة فهو في الحقيقة
شاعر شق طريقاً لم تكن ممهدة قبله، وهم قلدوا تجربته،
شاعر طازج وهم شعراء مصنوعون، قصيدته تخرج كما يفكر دون تزويق لذلك تلمسه على الورق وهم عجزوا عن التعبير، وكان مهموماً بالتفاصيل وهم ابتعدوا في التنظير.
في الواقع، المنجز الشعري ل
محمد الماغوط منجز مختلف، ومتكامل يمثل هم جيل على لسان
شاعر اكتوى بكل التناقضات الفكرية والسياسية والعقيدية فلم تبقَ بارقة إلا وأعطى فيها، فمن الذات إلى الرصيف مروراً بأسرة وبيئة كانت رحلة الماغوط. قد يكون مؤلماً -وهو كذلك- أن يكون المنجز الشعري ل
محمد الماغوط بعيداً عن الدرس والتحليل بينما تتقدم فنون كتابية أخرى عنده، ولولا المنجز الشعري عنده لم يكن ليتفوق في أي منها إضافة إلى خصائص في منجزه الشعري تتمثل في الريادة الشعرية والصورة الشعرية والأبعاد الفكرية والروحية في القصيدة، وعمق التجربة وخلود القصيدة.
ومع هذا لا يستطيع المرء أن يتجاوز جملة المنجز الفكري للماغوط ولا يمكن أن ينحاز إلى المنجز الشعري في ديوانه دون الوقوف عند الجوانب الأخرى التي أعطى فيها وتفوق وإن كان ذلك بالاتكاء على التاريخ الشعري الطويل، فقد دفعته ظروف الحياة أولاً وموهبته المتميزة ثانياً ورؤاه السياسية والوطنية إلى الدخول في عدة فنون فأجاد وأبدع.
الشعر هو مساحته الأولى والنافخ في روحه وصاحب القصيدة الحديثة بلا منازع والتي أطلقوا عليها اسم قصيدة النثر. أما في المسرح فقد أنجز الماغوط عدداً من النصوص المسرحية المؤثرة في تاريخ المسرح السوري وهي مطبوعة في أعماله المسرحية لكن المرحلة الهامة في حياته المسرحية وإن انتهت بانفصال فني كانت مرحلة تعاونه مع الفنان دريد لحام، هذه المرحلة قربته من العامة أكثر وجعلته محط اهتمام عدد كبير من المتابعين الذين لم يلتفتوا إلى منجزه الشعري وقد لا يلتفتون، وفي هذه المرحلة أنجز مسرحيات طبعت باسمه واسم شريكه (ضيعة تشرين، غربة، كاسك ياوطن، شقائق النعمان) وقد كرس الماغوط كاتباً مسرحياً شعبياً وصل إلى كل الشرائح دون النظر إلى أراء قد تكون صحيحة وقد لا تكون في تقويم تجربته المسرحية التي ودون أي شك أسهمت في تقديمه بطريقة أخرى أقرب إلى الناس وتحتاج تجربة الماغوط المسرحية الكثير من الدراسة والتأمل.
وجد عنده المقال الصحفي الأدبي في وقت ازدهرت فيه الصحافة الأدبية فكان أحد فرسانها الكبار، ولا جدال في أن مقالته المرتكزة إلى روح شفافة وعمق قصيدة ونكتة لاذعة كانت المقالة الأكثر جدارة في الصحافة السورية والعربية، ولا يزال القراء والنقاد يرددون مقولاته وعناوينه إلى اليوم.
بالتأكيد لا يمكن نكران الماغوط كظاهرة إيديولوجية بامتياز، فقد عرّى الفكر والأيديولوجيا ببساطة التعبير والإنسان، ودون أن يكلفه ذلك أي شيء، اللهم إلا أن يكتب ويتحدث كما يتنفس، ففي كل خطوة كانت منه تجاه الأحزاب والأيديولوجيا أثبت الماغوط أن الاختيار قائم على حاجة الفرد الذي ينتقي وينتمي حسب حاجته وكأنه بذلك ليس على دراية بالنظريات والآراء ومؤداها، وإن كان الماغوط قد قّدم ذلك على سبيل النكتة والأملوحة إلا أن المغزى أعمق من ذلك بكثير فهو انتسب إلى أحد الأحزاب لأنه يشعر بالبرد ومقر هذا الحزب فيه مدفأة ويبحث عن مأوى ودفء، لم يكن الماغوط بهذه البساطة عندما صرح بذلك ولكنه أراد الدفاع عن إنسانية الإنسان وبيان الغايات التي تجعله يختار هذا الخيار دون سواه، ولو قرأ أحدنا الرسومات الماغوطية في الأحزاب والأيديولوجيا فإنه سيحقق قناعة مطلقة بأن أغلب المنتمين إلى التيارات الأيديولوجية انتموا بواقع هيمنة هذا التيار المناطقي.