نعم نفتقده في هذا الزمن الفني الشحيح البخيل، المتخم بالنكبات والأعمال الهابطة الرديئة التي تحاصرنا ليل نهار، وكأن موسيقانا أفُرغت تماما، من خزينها الابداعي ومواهبها التلحينية وشعراء الكلمة الساحرة والأصوات الندية المعبرة،فهل مايقدم اليوم من منتوج الغناء العربي، ينتمي الى قواعد وأصول وإرث هذا الفن الجميل النبيل الذي كان أحد أعمدة الثقافة العربية والمعبر بصدق واخلاص عن قضايا الوطن والانسان؟ بالتأكيد لا، ولا عريضة، فالفن _أي فن _عندما يصبح مدعاة للهو والتسلية ومزجاة الأوقات العابرة، يصبح كالمخدر السام، وهذا بالمطلق ليس دور الفن في الحياة ، وهو دور اسمى من أن يكون عابر وزائل لايترك أي أثر ذا بال لدى المتلقي، وهكذا نرى كيف حملت الأعمال القديمة بروحها الكلاسيكية مطالب الانسان الروحية والوجدانية وهذا في أغلب موسيقات الشعوب ومنها موسيقانا بالتأكيد. فما الذي تغير وقلب المفاهيم والمعايير رأسا على عقب حتى تسوء الأمور الى هذا الحد الكارثي من الاستسهال إن لم نقل الاستهبال في عملية الانتاج الغنائي الذي أصبح مع العولمة ومابعد الحداثة أشبه بصناعة المعلبات وأغذية الأطفال المسمومة، ونحن هنا لانريد ان نعقد مقارنة بين ذاك الزمن الجميل الذي حقق نهضة ثقافية وفكرية وفنية تحديدا بدايات ومنتصف القرن الماضي، وبين زمننا الشحيح النكد، فلكل زمن موسيقاه ندرك ذلك جيدا ونعيه، كل مايهمنا هنا هو ارتفاع حمى التقليد واستنساخ الآخر على علاته بشكل " قردي" مريض على رأي الباحث الدكتور " محمود قطاط" فأغنية اليوم ذات مواضيع مكرورة الى حد الاهتراء مليئة بالبكائية والتفجع والحرمان والنحيب الذي لانهاية له، في حين كانت الاغنية الرحبانية على سبيل المثال، مفعمة بالحب والأمل والغد المشرق تؤكد على الدوام وهذه إحدى أهم نجاحاتها على الإقبال على الحياة التي تستحق أن تعاش بملء القلب والروح ، وكل ذلك ابتدأ منذ البداية عبر الكلمة المغناة التي قلبت المفاهيم النقدية والذوقية، سواء عبر صياغة عاصي ومنصور شعرهم الكبير المحمل بأسرار الصنعة الشعرية وتمرسهم في الكتابة والقراءة المستمرة الدؤوبة للشعر العربي والعالمي على حد سواء، مروراً، بانسياب اللحن دون أية تعقيدات أو استعراض فارغ وأجوف حيث تلعب المقدمات الموسيقية الباذخة الجمال، دورا رئيسا في اجواء اللحن وسياق الأغنية بمختلف أنماطها وتقاليدها، مع وجود عازفين كبار في استثمار ذكي وخلاق للآلة الموسيقية سواء الآلة الشرقية العربية أم الغربية التي تم استخدامها بكل حرفية وابداع "البيانو، التشيللو، الكلارينيت، الترومبيت، الأوبوا، الفلوت، وغيرها من آلات منحت الأذن العربية عطاءات نادرة وقيمة من جماليات الفن الرحباني العظيم، حيث التوزيع الموسيقي أخذ طابعا تعبيريا وتصويريا مذهلا _كمثال اغلب المقدمات الموسيقية التي اندرجت عبر المسرح الغنائي الرحباني الذي وصل مع هؤلاء المبدعين الى ذرى جمالية لايمكن تجاوزها أبدا. أما الحديث عن صاحبة كل هذا الجمال الرحباني المديد، فهو حديث يأكل الأحاديث كلها على رأي الأصفهاني، حديث ذو شجون لايمكن بأي حال من الأحوال التعبير عن قيمتها الفنية العالية وحضورها المشع في ذاكرة الفن المعاصر . هي فيروز، وكفى، رفيقة صباحاتنا الهانئة، التي ملأت أسماعنا ولاتزال بكل هذا الحب والجمال الذي لاينتهي، منحتنا الوعد والأمل وهذا منتهى العطاء، في لقيا صوتها الشفيف النبيل والكريم، الذي صاغ نجاحاته شطرها الروحي عاصي العصّي على النسيان، نفتقده بكل تأكيد مع رفيق دربه وتؤامه المبدع منصور، نشتاقه ونبحث عنه بين ركام الأغنية العربية اليوم، نتلمس عمق هذه التجربة الكبيرة بكل المقاييس الجمالية والذوقية والنقدية، نقرأ صوتها وابداعها بقلوبنا علّ، الزمن يعود بنا وينعم علينا من جديد بأسرار لم تكتشف من أسرار هذه المدرسة الموسيقية العظيمة ومعلمها الكبير عاصي الرحباني، الذي صنع أسطورته الحية وسكن فيها الى الأبد.
صحيفة الثورة