حاول الباحث الفرنسي جان ماري أن يتقصى دواعي ذلك في مقال مطول بصحيفة نوفل أوبزرفاتور الفرنسية، فبحث الأسباب الخفية التي تجعل الإنسان يؤمن بالحكايات الخيالية وينجذب إليها انجذابا قويا قد ينسيه في بعض الأحيان الارتباط بالحياة الواقعية.
ومما أثار اهتمام ماري -وهو مدير الأبحاث بالمركز الوطني للبحوث العلمية- ودفعه إلى التطرق لهذا الموضوع ما لاحظه لدى الباريسيين من تعلق جنوني بالمسلسل المشهور "هاري بوتر" ليتساءل ما السر في أن يحبس هؤلاء أنفاسهم في أماكن ضيقة (دور السينما) ليتابعوا مقاطع تصاحبها موسيقى رديئة وسط ضجيج من الأصوات المختلفة؟
يقول الكاتب -وهو أيضا مدير الدراسات بالمدرسة العليا للدراسات الاجتماعية- إن هذا يذكره بما كان عليه الأمر أيام الفيلسوف الإغريقي أفلاطون حين كان كتاب ذلك العهد من أمثال مايسكيلوس وسفوكليسن وأرستوفانيس يسحرون الجماهير بمسرحياتهم وحكاياتهم الخيالية.
وفسر هذا التعلق المفرط بالمشاهد السينمائية بتشبث الإنسان منذ القدم بقصص الخيال، مشيرا إلى أنه يعكس ميلا إنسانيا فطريا إلى الخيال والهروب من الحقيقة، ولكنه في نفس الوقت أكد أن المجتمع الذي يحتل فيه الخيال مكان العقل يعيش حالة خطرة.
ميل فطري
رأى الكاتب أن تقديم هذه القصص الخيالية للمشاهد بطريقة تجعله يعتقد أنها حقيقة هو موطن الخطر بالتحديد، مشيرا إلى أننا اعتدنا على الإيمان بالقصص الخيالية منذ الصغر، حتى إننا عندما نتابع فيلما سينمائيا قد ينسينا ذلك تذكر وقت العشاء، تماما مثل إدمان البعض ألعاب الفيديو والغوص بالعوالم الافتراضية مبتعدا عن عالم الحقيقة الذي تحل محله أشباح في زي صور على الشاشة أو على صفحات كتاب يروي قصة خيالية.
ويقول أيضا إن هذا الميل الساذج إلى الإيمان بالقصص الخيالية يلتصق بالشخص منذ الصغر، وهو نابع -حسب أفلاطون والكاتب جان جاك روسو- من حكايات الجدات لأطفالهن الصغار.
أما اليوم -حسب الباحث- فقد حلت السينما والتلفاز مكان الجدات وجعلا أطفالنا ميالين إلى الخيال، مما أفقدهم الارتباط بالحقيقة والواقع. إلا أن هذا وحده لا يكفي لتفسير تعلق الأطفال بالخيال، إذا لم يصحبه استعداد فطري لتقبل القصص الخيالية، مما قد يمكن جانب الخيال من أن يطغى على حياة الإنسان حتى يصعب عليه التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مجرد سراب.
إن أفلاطون -بطرده المقلدين من المدينة الفاضلة- يشير إلى ضرورة الابتعاد عن التقليد والمحاكاة لتحاشي الوقوع في هذا الخيال، كما ينصح روسو -عن طريق مربي أميل- بالابتعاد عن الكتب وكل ما من شأنه أن يشجع الخيال لدى الأطفال.
ويقول الكاتب إن الإيمان بالخيال يرجع إلى أنه مجموعة من التشكلات والتمثلات التي هي آلة لإنتاج المعتقدات، خاصة أن إدراك الشيء فرع عن تصوره، ومن هنا يميل الإنسان إلى تحويل الأشياء التي يتم إخباره بها تلقائيا إلى معتقد.
الإدراك فرع عن التصور
وقد ضرب الكاتب مثالا بأن الأميبا أكثر كائن بدائية تمثلاتها لا تتعدى تلك الأحاسيس التي تشعر بها عند تحركها والناتجة عن مقاومة حركتها، وكذلك الإنسان لا تعدو تمثلاته أن تكون ناتجة هي الأخرى عن الأحاسيس التي يشعر بها، وإن كان ذلك يختلف عندما تضعف علاقته بالدوافع الخارجية، أي بارتباطه بعالم الحقيقة، فيصبح رهين دوافع داخلية من نسج خياله.
ويرى أن الفيلسوف ديفيد هيوم أحسن من أدرك هذا الترابط، إذ أن مجرد تمثل الشيء يجعله أمرا موجودا.
ويقول هيوم إن التمثلات عندما تكون قوية يسهل تصديقها والإيمان بها، وقد أدرك ذلك الأطباء النفسيون واستخدموه في تجاربهم لعلاج مرض الخوف من الأماكن المكشوفة.
وفي آخر المقال، نبه الباحث على ظاهرة "خداع ما قبل الانتباه" وهو ما يجعلنا نشعر للحظات قصيرة بالخطر عندما يظهر فجأة وحش على الشاشة أو يجعلنا نرسم بإيماءة بالرأس عندما تتحرك طائرة على الشاشة قبل أن ندرك أننا كنا نعيش في عالم الخيال.