أوغاريت

الخميس 4 أكتوبر 2018 - 13:07 بتوقيت غرينتش

أنشأت مدينة أوغاريت علاقات بحرية مبكرة مع بحر إيجة وازدهرت التجارة في كلا الجانبين، فاغتنت أوغاريت لتنافس باقي المدن المجاورة وفي بعض الأحيان تجاوزت أخواتها المدن الكنعانية. إذا اخترنا أن نتناول موضوع هذه المدينة لنتحدث عن دورها الرائد في القطاع البحري والتبادل التجاري وعن دورها الثقافي وخاصة أبجديتها... لكن لا نستطيع أن نلقبها "بالفينيقية" بل "الكنعانية"، فمن الممكن الاعتبار أن أوغاريت كانت "المحرضة أو المبشرة" لمستقبل المدن الفينيقية ونشاطها وانتشار مراكزها التجارية. فذكر احد المؤرخين: "يبدو أن أوغاريت كانت قوة سياسية بحرية منافسة لميسيناي ومنذرة للشركات الكبرى الفينيقية من صور وصيدا".

تقع مدينة أوغاريت المعروفة حاليا تحت اسم رأس شمرا على بعد 15 كلم شمال اللاذقية، على المنطقة الساحلية للبحر الأبيض المتوسط في غرب سوريا. تم اكتشافها صدفة في العام 1929 من قبل مزارع يفلح حقله حيث ضرب محراثه مقبرة مليئة بالسيراميك. في ذلك الوقت كانت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، مع هذه السلطة، تم خلق دائرة للآثار تحت إشراف المستشرق الفرنسي رينيه ديسو، التي لم تتأخر بإرسال عالم الآثار الفرنسي كلود-فريديريك-أرمان شيفر الذي باشر عمليات النقب وواصلها حتى وفاته في العام 1982.

هذا المرفأ الكنعاني الكبير، لم يكن معروفا حتى الآن إلا من خلال المحفوظات القديمة الموجودة في تل العمارنة (عاصمة أخناتون) وبعض الرسائل بين ملوك أوغاريت والفراعنة. منذ العام 1929، ساهمت الاكتشافات المتتالية، من خلال موقعها الأثري، بمعرفة تاريخ واسرار هذه المدينة، التي دمرت خلال غزو شعوب البحر في العام 1186 قبل الميلاد.

أوغاريت، احدى أقدم المواقع في الشرق الأدنى القديم، يعود تاريخ إنشائها إلى العصر الحجري الحديث (6500 قبل الميلاد). اعتمدت صناعة النحاس في أوائل الألفية الرابعة. تحولت إلى مدينة مهمة حوالي 3000 ق.م. ومنذ ذلك العهد كانت محاطة بالتحصينات. بداية الألف الثاني يمثل نقطة تحول في تاريخ المدينة مع وصول جماعات البدو المعروفين تحت اسم الأٌمٌوريين، الحرفيين المتخصصين في الصناعة البرونزية والصب. أصبحت أوغاريت عاصمة مملكة مزدهرة ومتطورة بفضل مركزها الاستراتيجي عند تقاطع الطرق البرية في الشرق الأوسط وصلة وصل بين ممرات البحر الأبيض المتوسط. في ذلك الوقت، وبسبب هذه المحاور، اضطر الملوك بناء حصون وأسوار من اجل الدفاع عن أنفسهم وعن توابعهم ضد القوى المعنية: إلى الجنوب، فراعنة مصر والى الشمال، في سفوح جبال طوروس، مملكة ميتاني ومن ثم الحثيين، وأهالي بلاد ما بين النهرين إلى الشرق والبحر الأبيض المتوسط إلى الغرب وخاصة حضارات محيط بحر ايجه. إن هذا الموقع المميز على مفترق طرق التجارة والتبادل الثقافي، بين الشمال والجنوب (العالم الحثي - مصر) وبين الشرق والغرب (بلاد ما بين النهرين - البحر الأبيض المتوسط)، كان من الأسباب الرئيسية لاغتناء المملكة من خلال التجارة وتطوير الحرف اليدوية الفاخرة. كانت أوغاريت في صادرة الأراضي الخصبة، حيث ازدهرت زراعة الكروم والقمح وأشجار الزيتون التي شَجًعتْ تصدير النبيذ وزيت الزيتون. استقبلت مينائها السفن المصرية والكريتية المشحونة بالمرمر والنحاس والحفر الميسينية الثمينة، وتوافرت القوافل الآتية من البلاد الداخلية والمحملة بثروات هذه المناطق النائية. خلال حملات النقب، وجد علماء الآثار اللازورد من الأفغانستان والعاج من الهند والعنبر من بحر البلطيق.

القصر الملكي

يقع القصر الملكي وراء الأسوار وقد بُنِيَ من الخشب والطين، ومساحته تتجاوز عشرة آلاف متر مربع على ما يعادل 1/20 من المدينة. تم رسم خرائط هذا المبنى بأكملها بفضل اكتشاف جميع أساساته: مدخله مكون من شرفة ضخمة باتجاه الغرب ومدعومة من عمودين. من ثم نعبر أول فناء مرصوف للوصول إلى باحة ثانية مؤدية إلى قاعة العرش المحاطة بأركان صغيرة التي كانت تستخدم لتخزين المحفوظات الملكية. وراء قاعة العرش سلسلة من الفسحات المستديرة المزينة بالبرك مع بعض القنوات التي لا تزال مرئية حتى عصرنا الحاضر. حول هذه الفسحات تتواجد العشرات من الغرف الصغيرة مع الأدراج المؤدية إلى الطابق العلوي المخصص للعائلة المالكة.

االوصول إلى الأكروبوليس، الواقع إلى الشرق من المدينة، يتم عبر الأحياء المسكونة، وكتل المنازل المحاطة بالشوارع الضيقة (بعرض المترين). يتم تنظيم البيوت حول فناء مركزي المحاط، في الطابق الأرضي، بغرف صغيرة التي كانت تستخدم لتخزين المواد الغذائية أو كورش عمل. وخصص الطابق الأعلى والشرفة للحياة اليومية وخلايا النوم. كشفت الحفريات في العديد من المنازل وجود قبو في الطابق السفلي حيث دُفِنَ أفراد الأسرة.

  أغاريت بعل البقايا المتناثرة من معبد بعل تجعل من الصعب تكوين صورة كاملة ونظرة شاملة عن هذه الديانة. يفترض علماء الآثار أن المعبد كان مكونا من فناء مغلق وفي وسطه وُجِدَ أول مذبح حجري. وراء جدران الباحة الأولى تواجدت الحرم المخصصة لإله المدينة بعل. من المعالم التي ما تزال ظاهرة حتى اليوم، يبقى درج يشير إلى وجود طابق ثاني في المعبد مرئيا من البحر، قمته استعملت لإشعال نيران للذبيحة الإلهية. مُجَمًعْ الأرباب الإلاهي (البانثيون) في أوغاريت، كالكثير من غيره في معظم المدن الأخرى من الشرق الأدنى القديم، ضم العديد من الآلهة. نجد الكثير من أوجه التشابه مع آلهة المدن الكنعانية الأخرى من الساحل: بعل، إله العاصفة والمطر الخصيب، كان ممثلا وهو يلوح بالصولجان رمزا إلى البرق، ومنبتا أوراق الشجر من الأرض معربا عن ولادة جديدة للغطاء النباتي. وغالبا ما توج بالذهب على الطريقة الفرعونية أو بتاج على ما كان معتمد عليه في بلاد ما بين النهرين. بالإضافة إلى بعل، نجد الكثير من الآلهة عند الاوغاريتيين، يم: إله البحر. موت: إله الحصاد والموت الذي يختفي تحت الأرض بعد ولادة بعل. هنالك أيضا داغان: إله القمح والمحراث. اليان بعل: إله المياه الجوفية والآبار والأنهار والينابيع. عنات: من المعتقد أنها تمثل شقيقة بعل وعشيقته في نفس الوقت وهي إلاهة الصيد والحرب وبالطبع عشتروت أو عشترت: إلاهة الحب والخصوبة. الأبجدية الأوغاريتية كشفت الحفريات الأثرية على العديد من النصوص المختلفة في ثماني لغات وخمس كتابات التي تعكس الطابع الثقافي الغني لهذه المملكة ذات الوجه التجاري(5). اثنتين من هذه الكتابات واللغات المتداولة كانت الأبرز والأكثر استعمالا في هذه المدينة: الأوغاريتية، معروفة كالكتابة الأبجدية المحلية، إعتُمِدَت منذ القرن الرابع عشر أو الثالث عشر قبل الميلاد. إستُخدِمَت هذه اللغة لكتابة النصوص التي تدور حول الحياة اليومية بوصفها وثائق خاصة، والعقود التجارية، والرسائل والمبادلات العائلية، ومخطوطات الطقوس الدينية، الطوالع(6)، وقوائم الآلهة، الخ. الأكادية، لغة آشورية وبابلية ظهرت في بلاد ما بين النهرين، وأصبحت لغة دولية في الألفية الثانية قبل الميلاد. هذه الكتابة كانت مدونة بالخط المسماري المقطعي "syllabo-idéographique". استعملت هذه اللغة في الإجراءات الإدارية والقوائم الرسمية من الشخصيات والقوائم الجغرافية. وكانت خاصة متداولة في المراسلات الرسمية للمملكة مع القوى السياسية في تلك العهود. كانت الأوغاريتية وحدها تستخدم لتسجيل الأساطير المتعلقة بالتقاليد المحلية. هذه الكتابات تشهد الروابط مع قصص الكتاب المقدس، مما يدل على وجود صلة وصل ثقافية مشتركة التي جرى تسميتها "الكنعانية" (انظر الملاحظة 4). الأبجدية الأوغاريتية كانت من اول الكتابات التي اعتمدت أشكال مبسطة، وحدت عدد العلامات المستعملة. بفضل هذا التطور، أصبحت الكتابة سهلة وفي متناول الجميع. ثمرة هذا الابتكار أدت إلى التخلي عن اللغات المسمارية المعقدة واعتماد الأبجدية الفينيقية التي خلقت في مدينة جبيل بعد ثلاثة قرون. فضل الفينيقيون في تعميم الأبجدية يعود خاصة إلى استعمال المواد الخفيفة مثل ورق البردي على حساب الألواح الطينية أو الحجرية.

جميع الحقوق محفوظة لقناة العالم سورية 2019