للمرّة الأُولى، وبأكثَر العبارات وضوحًا، يكشِف سيرغي لافروف، وزير الخارجيّة الروسيّ، أنّ موسكو وأنقرة اتّفقتا في قمّة سوتشي الثلاثيّة التي انعقدت يوم الخميس الماضي، بأنّ “اتفاقيّة أضنة” التي توصّل إليها الجانِبان السوريّ والتركيّ عام 1998 هي الطّريق الأمثَل للتّصدّي للتّهديدات الإرهابيّة على الحُدود السوريّة التركيّة.
هذا الكشف الذي جاء بعد خمسة أيّام من انعِقاد القمّة الثلاثيّة الروسيّة الإيرانيّة التركيّة يعني “دفْن” المنطقة الآمنة التي دَعا الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب إلى إقامتها على طُول الحُدود الشماليّة السوريّة بعُمق 20 كيلومترًا تحت الإدارة التركيّة ومنع تقسيم سورية، وإقامة “دُويلة” على الضفّة الشرقيّة لنهر الفرات.
تطبيق اتفاقيّة “أضنة” يعني تبديد كُل المخاوف الأمنيّة التركيّة والسوريّة معًا، والتصدّي المُشترك لجميع الفصائل المُصنّفة في قائمة الإرهاب، كرديّة كانت أو عربيّة أو تركمانيّة، أو دوليّة عابرة للحُدود، وطَيّ صفحة ثمانية سنوات من الفوضى الدمويّة، والتدخّلات العسكريّة الخارجيّة والأمريكيّة على وجه الخُصوص، وعودة أكثر من ستّة ملايين لاجِئ سوري إلى وطنهم، أكثر من نصفهم في تركيا، ومن المُفارقة أن سورية كانت الأكثَر التِزامًا ببُنودها.
الأمر المُؤكّد أن هناك اتّفاقات أخرى جرى التوصل إليها في قمّة سوتشي لم يتم الكشف عنها، تتعلّق بالوضع في إدلب، والحل السياسيّ في سورية، وكيفيّة مِلء الفراغ النّاجم عن انسِحاب القُوّات الأمريكيّة، ولكن يبدو أنّ هُناك اتّفاقًا باتّباع أسلوب التدرّج والتّقسيط المُريح في الكشف عن تِلك الحُلول، وإن كُنّا نتكهّن بأنّ الحل العسكريّ الثلاثيّ التركيّ الروسيّ السوريّ لإنهاء سيطرة “هيئة تحرير الشام” على 90 بالمئة من محافظة إدلب بات وشيكًا، في ظِل تعثّر الحُلول السلميّة التفاوضيّة التي تعهّد الرئيس أردوغان بالتّوصُّل إليها لتَجنُّب كارثة إنسانيّة دمويّة يكون المَدنيّون أبرز ضحاياها.
مُوافقة الرئيس أردوغان في قمّة سوتشي على تطبيق “اتّفاق أضنة” يعني الاعتراف بالدولة السوريّة والرئيس الذي يحكُمها، والجُلوس على مائدة الحِوار تحت المِظلّة الروسيّة لنفض الغُبار عن هذا الاتّفاق، ووضع آليّات التّنفيذ المُشترك على الأرض، هذا ما يقوله المنطق، والخُطوة الأُولى في هذا الإطار تهيئة الأجواء للحِوار، ووقف كُل أشكال التّصعيد الإعلاميّ من الجانِبين التركيّ والسوريّ.
الرئيس أردوغان اعترف بأنّ هُناك اتّصالات على مُستوى أجهزة الاستخبارات بين الجانبين التركيّ والسوريّ، ولكن الآن، وبعد الاتّفاق على أنّ “اتّفاق أضنة” هو الحل، بات مُحتّمًا رفع مُستوى هذه الاتّصالات من الأمنيّ الاستخباريّ إلى السياسيّ، ولا نستبعِد أن تكون هذه “النّقلة” هي أحد الخُطوات التي جرى الاتّفاق عليها في قمّة سوتشي الثّلاثيّة.
نتّفق مع الوزير لافروف في أنّ هدف الولايات المتحدة وإسرائيل، وبعض حُلفائهم العرب كان تقسيم سورية، وإقامة “دويلة” أو “مشيخة” فوق آبار النّفط والغاز السوريّة شرق الفرات على الطّريقة الخليجيّة، ولكن صُمود الجيش العربيّ والدولة السوريّة، والدّعم الروسيّ الإيرانيّ، أفشل هذا المُخطّط، وما كان جائزًا بعد سايكس بيكو، وأثناء الاحتلال البريطانيّ الفرنسيّ للمِنطقة العربيّة يبدو مُتعثّرًا الآن.
نقطة التحوّل المحوريّة في رأينا تمثّلت في إصرار الحليف الروسيّ على عودة السّيادة السوريّة على جميع أراضي سورية سلمًا أو حربًا هو الذي نسف مُخطّط التّقسيم، وأجبر الولايات المتحدة على الاعتِراف بالهزيمة وإعلان رئيسها ترامب عن سحب جميع قوّاته بحُلول شهر نيسان (ابريل) المُقبِل.
الدكتورة بثينة شعبان، مُستشارة الرئيس السوريّ، أدلت بتصريحٍ على درجةٍ عاليةٍ من الأهميّة على هامش مُشاركتها في مُنتدى “فالداي” الدوليّ في موسكو، قالت فيه “إنّ سورية هي أساس الجامعة العربيّة وعلى العرب أن يعودوا إليها لأنّها تُمثّل الخط العربيّ الحقيقيّ المُقاوم، وهي التي تُمثّل الحِرص على القضيّة الفِلسطينيّة والمُستقبل العربيّ”.
إنّها لغةٌ قديمةٌ مُتجدّدةٌ نأمل أن يفهمها “عرب وارسو” الذين، أو مُعظمهم، نسوا حُروفها ومُفرداتها ومَعانيها الوطنيّة، في غَمرة انشغالهم بتعلُّم اللغة العبريّة في السنوات العشر الماضية، إن لم يكُن أكثر، ونتمنّى لهم الهِداية والعودة إلى الطّريق الصّواب.