بثينة شعبان
كنت أتابع تفاصيل أخبار فنزويلا، فعادت بي الذاكرة، مع كثير من التفاصيل، إلى ربيع عام 2011 وأحداثها في سورية: من المظاهرات الأولى أمام وزارة الداخلية إلى قصص ملفقة عن أطفال درعا وحليبهم المفقود وإلى القصص الأخرى التي تمّ نسجها وبرهنت الأيام أن لا أساس لها من الصحة وإلى المطالبات بإلغاء قانون الطوارئ، ومن ثمّ الفقرة الثامنة من الدستور، ثمّ إلى خيانة بعض المسؤولين في الجيش والدولة لقسم الولاء للوطن والشعب والدولة، فأنكروا تاريخهم وانساقوا وراء دعايات ووعود زائفة سالت لها أنفسهم. في الوقت الذي كانت القوى الشريرة تتابع تحقيق أهدافها الحقيقية من خلال حرق دائرة النفوس والقصر العدلي في درعا، ومن ثمّ تدمير المدارس والجوامع والكنائس والآثار والطرق والجسور وخطوط النفط والغاز إلى أن أصبح واضحاً للجميع ولكن فقط بعد حين أن هدف هذه الحرب الأساسي هو تدمير الدولة السورية وكلّ ما قامت به من إنجازات في البنى التحتية وخاصة الصحية والتعليمية والتي كانت مثار حسد القاصي والداني. ولم تتخذ الصين وروسيا فيتو مزدوجاً لمصلحة سورية حتى 4/10/2011 أي بعد ستة أشهر ونيّف من اندلاع الأحداث وتطورها من مظاهرات الجمعة التي اتخذت من المساجد مركزاً لشقّ الصفوف وبثّ الطائفية والعنف والجريمة، ومن ثمّ اندرجت مئة وسبع وثلاثون دولة جمعتهم إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تحت مسمى «أصدقاء سورية»، وأخذوا يعقدون الاجتماعات في عواصم مختلفة في الإقليم لدعم التحركات «الديمقراطية» التي لم تكن سوى حرب استعمارية إرهابية استهدفت البشر والحجر شنّها الاخوان المسلمون والإسلاميون عموماً بتخطيط ومساعدة أعداء البلاد التاريخيين، إسرائيل والولايات المتحدة. ولم يبصر الكثيرون حقيقة ما يجري في سورية إلا بعد أن دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً لصدّ العدوان الذي استهدف كامل أراضيه ولم يتقدم سوى الأشقاء من محور المقاومة لدعم الشباب السوري الذي قدّم مئات الألوف من الشهداء والجرحى في حرب ضروس لم نعهدها من قبل ولم تتقدم روسيا لدعم الجيش العربيّ السوريّ حتى 31/9/2015، حين قررت إرسال قوات جوية ضاربة لدعم الجيش السوري في حربه ضد الإرهاب. ورغم انكشاف حقيقة ما جرى فإن الدول الغربية مازالت تشدّد من الحصار الاقتصادي والسياسي والإعلامي كي لا تعترف كم كانت جرائمها بشعة بحقّ الشعب السوريّ، وكي لا تقرّ أمام العالم أن الدعوات إلى «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» لم تكن إلا غطاء كي يعيث عملاؤهم من الخونة فساداً في أرضنا المقدسة وكي يتمكنوا من تغيير سلوك الدولة بعد أن فشلوا في تغيير نظام الحكم في هذه الدولة ليكون سلوكاً تابعاً للغرب ومؤتمراً بإمرتهم، وهذا هو الهدف الأساس من كلّ هذه الحرب على سورية كما هو من معظم الحروب وبمختلف أشكالها التي تشنّها بأساليب مختلفة الدول الغربيّة ضد البلدان الأخرى في العالم وخاصة العرب لاستعبادهم ونهب ثرواتهم.
ولكنّ ما يجري اليوم في
فنزويلا يُرى أن وعي الشعوب بالأحداث لا ينتظر الاعترافات من الحكومات الغربيّة بجرائمهم أو بحقيقة أهدافهم، حيث برهنت ردود الأفعال على الإجراءات الأميركية ضد
فنزويلا أن معظم الدول والشعوب قد استلهمت ردود فعلها من التجربة السورية، فكانت سريعة بقراءة الأحداث ولم يكن عليها أن تنتظر سنوات ولا حتى أشهراً حتى تكشف حقيقة النوايا الأميركية والغربية المبيتة ضد فنزويلا. فأقدمت روسيا والصين ودون تردد باتخاذ فيتو مزدوج ضد أول مشروع قرار تضعه الولايات المتحدة أمام مجلس الأمن لتبرير عدوانها المبيت على
فنزويلا واتخذ الرئيس مادورو قراراً سريعاً بنقل الشركة الفنزويلية للنفط من أوروبا إلى روسيا، وحضرت في اليوم التالي للفيتو نائبة الرئيس مادورو إلى موسكو لتنسيق الخطوات مع القيادة الروسية حول ما يجب فعله لمنع عدوان أميركي على فنزويلا. وكان من اللافت أنّ الإعلام لم يطلق على أتباع غوايدو والمؤيدين لتدخل الولايات المتحدة أسماء «معارضات» كما في الحالة السورية بل سماهم باسمهم الحقيقي «المرتزقة»، كما أنه من المضحك أن تسمّي الولايات المتحدة صفقات السلاح التي تريد إيصالها إلى
فنزويلا «المساعدات الإنسانية». لقد أطلعتنا مصادر سودانية أن معظم المساعدات الإنسانية التي كانت تدخل إلى السودان كانت تحتوي على السلاح، ولذلك نشهد إصرار ما يسمى «المنظمات الإنسانية» التي تريد أن تدخل مثل هذه المساعدات إلى سورية دون اطلاع الحكومة السورية عليها. وفي حمأة كل هذه الانكشافات لحقيقة السياسات الأميركية التي تبيّن أنها من صنع المخابرات الأميركية والتي تريد أنظمة تابعة لها، ولذلك وقفت ضد الرئيس المحبوب لولا في البرازيل وضد الرئيسة كريستينا كوشنر في الأرجنتين والآن تقف ضد الحكومة البوليفارية في فنزويلا، في حمأة كلّ هذه الانكشافات يصرّح إليوت أبرامز في مؤتمر صحفي في واشنطن أن روسيا والصين لن تتمكّنا من تحصيل ديونهما من
فنزويلا إذا ما استمررتا بهذا الموقف ألا وهو دعم الشعب الفنزويلي ودعم حكومته المنتخبة منذ أقل من عام. أي إن وعي الشعوب يتراكم ويتقدّم ويسهم في تغيير العالم في حين يستمر إليوت أبرامز بالمبازرة من أجل شراء ضمائر الحكومات والشعوب بحفنة من الدولارات التي لا يعرف سواها في الحياة. لقد كانت التجربة السورية حاضرة في
فنزويلا حين حصّن مادورو حدوده مع كولومبيا بإرسال فرق من جيشه هناك إلى مدينة سموها «درعا الفنزويلية» تعبيراً أيضاً عن مجاورة العدو الصهيوني لحدودنا وانبثاق أولى شرارات الإرهاب المسلح بإيعاز وعون من ذلك العدو للخونة من مرتزقته الذين استهدفوا مواقع جيشهم خدمة للعدو.
القوّة الأساسية التي مازال الغرب يرتكز عليها في كلّ محاولاته خرق سيادة الدول والشعوب ونهب ثرواتهم واستخدام لغة ومصطلحات تهدف عكس ما تبدو عليه معانيها الظاهرية في القراءة الأولى هي الإعلام إذ مازال الإعلام الغربي ينشر فكره ومصطلحاته وإجراءاته ويشكّل تحدّياً حقيقياً لكلّ القوى الطامحة إلى الاستقلال الحقيقي والتحرّر المؤكد والفعلي من براثن الاستعمار وألاعيبه، ولهذا فهم لا يخجلون أن يشيروا إلى رئيس برلمان خان القسم في بلاده وأعلن ولاءه لقوّة أجنبية تستهدف دولته بأنّه هو الرئيس الذي يوافقون على اللقاء به ولو كان هذا الشخص نفسه رئيساً للكونغرس مثلاً وتعاون مع قوّة أجنبية تستهدف بلده لأطلقت عليه كلّ أوصاف الخيانة ولسيق إلى المحاكمة ولاستحق أقصى أنواع العقوبات. إذ ها هو الرئيس الأميركي ترامب ما زال يخضع للتحقيق للتأكّد من أنه لم يتواصل مع أحد في روسيا أثناء حملته الانتخابية إذ حتى التواصل مع الآخرين في مرحلة سياسية حساسة يعتبر خيانة وقبولاً بالتدخل في مجريات حكم البلاد في حين يمسك ترامب نفسه ومن معه برئيس برلمان دولة مستقلة يخون رئيسه وبلده ويعتبرونه أساساً للعمل من أجل مستقبل مختلف لجمهورية
فنزويلا البوليفارية.
لقد انكشف اليوم استخدام الغرب لمسمى «الديمقراطية» الذي عملوا على نشره في العالم فهو يعني بدقة «التدخل في شؤون البلدان وخلق أنظمة تابعة للغرب»، كما انكشف المعنى الدقيق «للمساعدات الإنسانية» ألا وهو تمرير صفقات سلاح دون رقيب لتسليح الخونة من عملاء الغرب كي يشنوا الحروب الداخلية بالوكالة إلى حين الاستيلاء على الحكم ووضع أنفسهم وبلدانهم في خدمة الامبريالية الغربية. رغم سطوة الإعلام الغربي فإن الشعوب جميعها قد فهمت هذه المعادلة وهي تقف اليوم موقف المؤيد للحكومة الشرعية في
فنزويلا وضد التدخل الأميركي السافر، وبما أن التاريخ يسير قدماً إلى الأمام، فلا نتوقع إلا زيادة وتراكم وعي الشعوب واتخاذها مواقف أكثر صلابة ضد الاستعمار والهيمنة ونهب الثروات. العالم يتغيّر فعلاً والمستقبل ستصنعه الشعوب الواعية في حين يبقى إليوت أبرامز وأصحابه يحلمون بالإمساك بالماضي الاستعماري الذي ذهب ولن يعود.