لا شكّ في أنّ الملايين التي تخرج بشكل عفوي وعاطفي تطمح إلى تحسين واقعها المعيشي وإيجاد أسلوب حياة ومكوّنات تقدّم وازدهار أفضل بكثير ممّا لديها اليوم. ولكن لماذا تنتهي مرة تلو الأخرى بواقع مرير مدمّر، يجعلها تحنّ بعدها إلى العهد الماضي رغم كلّ ثغراته وصعوباته؟
بعد كلّ الكوارث التي نزلت ب
العرب في العراق وليبيا و
سوريا والسودان واليمن منذ مطلع هذا القرن، يعاود أعداء الأمّة العربيّة حربهم التي سمّوها "الربيع العربيّ"، والذي هو أسوأ خريف عاشته هذه الأمّة، ها هو يعاود الظهور في بلد المليون ونصف المليون شهيد، حيث تشير تطورات الأحداث اليومية هناك إلى دخول الجزائر العزيزة في المسار ذاته الذي أدى إلى نتائج لا تُحمد عقباها في شقيقاتها من البلدان العربيّة السالفة الذكر. وكي ننتهي ومنذ البداية من أحد أهمّ مكونات هذه الأزمات، فنحن نعلم علم اليقين أنّ وطننا العربيّ بما يمتلك من موقع جغرافي وثروات باطنية هائلة، وحضارة تاريخية منظورة من قبل الأعداء، أنّ هذا الوطن كان دائماً محطّ أطماع ومخططات مستشرقين ومستعمرين وغربيين وصهاينة، يحاولون تغيير التاريخ وتسويف رُقُمه في العراق وسوريا، وحيثما أمكنهم ذلك، تمهيداً لقيام دولتهم التوراتية ولو بعد مئة عام من الآن.
إذاً، الاستهداف الخارجي وفي كلّ المآسي التي حلّت بشعبنا في العراق والسودان وليبيا وسوريا، هو استهداف أكيد ومدروس ومخطَّط له، وقد حظي في زمن "الربيع العربيّ" بكلّ التمويل لأدوات إرهابية سِيقَت إلى ديارنا، وحيثما عجزت تلك الأدوات، أرسلوا جيوشهم كي لا يتمّ دحرها إلّا بعد أن يضمنوا تغيير الأنظمة المستقلة، وجعلها خانعة تابعة، كما هي حال دول عربيّة عديدة، تصطف مع أعداء
العرب ضد الأشقاء في العراق و
سوريا ولبنان وليبيا واليمن، أو تغيير "سلوك الأنظمة" كما درجوا على القول مؤخراً. ولكنّ معرفة حقيقة ما يجري على الأرض وأسباب نجاحه ولو جزئياً، لا بدّ وأن تتناول دراسة الواقع العربيّ وتفنيد الثغرات التي مكنّت الأعداء من النفاذ منها إلى عمق البلاد، وتنفيذ مخططاتهم التي أوصلت البلدان إلى الخراب والدمار، رغم إرادة الشعوب ورغبتها في تحسين واقعها.
لا شكّ في أنّ الملايين التي تخرج بشكل عفوي وعاطفي تطمح إلى تحسين واقعها المعيشي وإيجاد أسلوب حياة ومكوّنات تقدّم وازدهار أفضل بكثير ممّا لديها اليوم. ولكن لماذا تنتهي مرة تلو الأخرى بواقع مرير مدمّر، يجعلها تحنّ بعدها إلى العهد الماضي رغم كلّ ثغراته وصعوباته؟ لا شكّ في أنّ جماهيرية الأحداث وخروج الملايين إلى الشارع كما يحدث اليوم في الجزائر ليسا بديلاً عن وجود أحزاب منظمة وآليات عمل ومؤسسات فاعلة ونخب قادرة ومسؤولة، تقود هذه الجماهير إلى خيارات محسوبة ومدروسة النتائج والمآل. ولكن وبنظرة عامة إلى الواقع العربيّ من المحيط إلى الخليج، نلاحظ غياباً حقيقياً لدور النخب في السياسة والمجتمع، وهذه مسألة ذات شجون، لأنّها لا تصل إلى هذه النتيجة بين يوم وليلة، بل هي نتيجة تراكمات تعليمية وثقافية ومجتمعية بحاجة إلى بحث كامل. فقد أقام أهلنا في فلسطين معرضاً مؤثراً منذ فترة اسمه "الاغتيال"، ووضعوا صور من اغتالهم الكيان الصهيوني في النصف الأخير من القرن الماضي وبعض أوراقهم أو آثارهم، ومن خلال استعراض الأسماء والصور، من ناجي العلي إلى غسان كنفاني، إلى العشرات منهم، حيث تشعر بالفقد الكبير الذي أُصيبت به القضية الفلسطينية والأمّة العربيّة من خلال اغتيال العدوّ لهؤلاء. وإذا ما استعرضنا الأمر على مستوى الأمّة، نرى أنّ هناك أساليب مختلفة أودت بالنخب إلى خبر كان، وأصبحت مجتمعاتنا، وخاصة في نصف القرن الأخير، فاقدة للنخب الحقيقية الواعية والمسؤولة والمستعدة للتضحية من أجل قضية تؤمن بها، أو مستقبل تعتزم صنعه للأجيال المقبلة. وأعتقد أنّ مسألة غياب النخب بحاجة إلى بحث معمّق ومعالجة خاصة، حين نرى دولاً مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا، ومؤخراً راوندا، والتي ما زالت تعاني الفقر والعوز والمشاكل، ولكنّ النخب فيها أوصلتها إلى فضاءات عالية تطمح أن تصبح من خلالها في عداد الدول المتقدمة علمياً وصناعياً وفضائياً واقتصادياً. هذا أولاً، أمّا الأمر الثاني والذي لا يقلّ أهميّة عن الأوّل، فهو مرتبط به ارتباطاً عضوياً، وهو غياب آليات العمل والغياب الحقيقي للمؤسسات وقواعد تفعيلها ونهوضها، بغض النظر عن الأشخاص القادمين أو الزائلين. وهذا ما لم تعمل الدول العربيّة على التركيز عليه منذ حصولها على الاستقلال من القوى الأجنبية. فقد حظي بعض الدول وفي مراحل تاريخية مختلفة بقيادات وطنية مؤمنة بالأوطان، واستطاعت تلك الدول أن تحدث فرقاً في تاريخ البلاد وتنظيمها وتطوّرها ، ولكنّ عدم وضع آليات دائمة ومتطورة جعل هذا التقدم والتطور مرتبطين بالحقبة ذاتها، من دون التمكّن من عبورها والاستمرار في حقب مقبلة.
والمشهد العربيّ اليوم ينبئ بكلّ هذه الثغرات لمن يريد أن يتفكّر فيه بصراحة وجرأة، إذ ما الذي تحتاجه هذه الملايين الخارجة من بيوتها في الجزائر سوى قيادات تمسك بزمام الأمور وترسم خارطة الطريق وتضع الأولويات التي تعبّر عمّا يريده الجزائريون وبطريقة سلمية ومدروسة. لا شكّ في أنّ الدعم الجماهيري لأيّ تحرّك هو مهم ومصيري، ولكن على أن يكون هذا التحرّك نابعاً من أحزاب ونقابات ومنظمات ونخب تعبّر عمّا يطمح إليه هذا الشعب، وتضع آليات العمل الحقيقية لإيصال هذا الشعب إلى برّ الأمان. أي أن يبدأ
العرب مساراً مختلفاً عمّا ساروا به إلى حدّ اليوم، وأن يكون سيدَ الموقف، الوعيُ الجمعي والموقفُ الوطني والشأنُ العام، وإلّا فإنّ التشرذم بين هذا الموقف وذاك هو الذي سمح في حالات بلدان مختلفة للأجنبي والمستعمر بالنفاذ إلى عقول بعض أبناء البلاد الذين أخذوا يمثلون مصالح الأعداء باسم التغيير والوصول إلى الأفضل.
غياب آليات العمل الحقيقية هو الذي يمنع وجود الحياة الحزبية والنقابية والمؤسساتية الفاعلة، ومن يريد أن يقتبس من الغرب كما يفعل البعض، بأنّهم لا يمتلكون تلك الحياة الحزبية النشطة أقول ولكنّهم عوّضوا عنها بوجود مؤسسات ضخمة ذات أسس وقوانين خاصة بها. والحقيقة، على البعض أن يتوقف عن اقتباس موقف من هنا وآخر من هناك من حياة البلدان الغربيّة لأنّ مسارهم مختلف جذرياً عن مسارنا، ولا بدّ لنا من أن نكتشف عوامل ضعفنا وقوتنا هنا على أرضنا وبين أبناء شعبنا، وأن نستمدّ المثل من تاريخنا بدلاً من القصّ واللصق حيث نشاء من الغرب، الأمر الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وللبرهان على صحة هذا الموقف ليس علينا سوى أن نتأمل في المثال الصيني الذي رفض الانسياق وراء الديمقراطية الغربية وطوّر آليات عمل الحزب الواحد، وطوّر الأطر والأسس الديمقراطية ضمن هذا الحزب الواحد، لينهض بالصين بطريقة تنال حسد الغرب وخوفه أيضاً من هذا التنين الصيني والمستقبل الذي يصنعه لشعبه وربما لشعوب العالم أيضاً من خلال فكرته الهائلة: "حزام واحد طريق واحد" والذي سوف يغيّر مستقبل البشرية جمعاء. هذه هي الطريقة الوحيدة للتغيير الجذري في العالم العربيّ، ولصدّ رياح العدوان والتدخلات الأجنبية ومحاولات الاحتلال والهيمنة، وهي أن نعكف على دراسة الثغرات التي أوصلت هذا الواقع إلى هنا، وأن نحاول التخلص منها من خلال دراسات علمية تخطّط للتحركات والأعمال ولا تترك العاطفة هي التي تقود شؤون البلاد. تبدو المهمة صعبة ولا شكّ في أنّها كذلك ولكنّها ليست مستحيلة، والأهمّ هو أنّ
العرب قد تاهوا في جميع الطرق الأخرى والتي لم تَقُدْ سوى إلى الضعف والهوان والاحتلال والاستهتار بهم على المستوى الإقليمي والدولي. فهل من بداية توصلهم إلى برّ الأمان ولو بعد حين وبعد أعوام من التخطيط والعمل والتعب ووضع آليات لبناء دول حصينة منيعة على الأعداء والمتخاذلين من أبناء القوم. ولنتذكر قوله تعالى: لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.