وأدخل الفريق البحثي -وهو من كلية الهندسة بجامعة دريكسيل- لمسة جديدة على ممارسة قديمة كان يستخدمها البناؤون الأوائل لتحقيق هذا المفهوم الجديد لـ"الخرسانة الحية" التي تستخدم بكتيريا تندفع إلى موقع الشقوق لإصلاح الضرر.
وقديما كان عمال البناء الأوائل يخلطون نوعا من الألياف -وهو "شعر الخيل"- في الطين، بما يساعد على تقوية خليط البناء. ولكن الطريقة الجديدة للبناء تأخذ هذه الآلية القديمة إلى المستوى التالي عبر تحويل الألياف إلى نظام أنسجة حية تدفع بكتيريا معالجة للخرسانة إلى موقع الشقوق لإصلاح الضرر، واُبلغ عن هذه التقنية في دورية "كونستركشن آند بيلدنغ ماتريالز".
إلهام الطبيعة
وأطلق الباحثون على الألياف المحملة بالبكتيريا اسم "بايوفايبر"، وقدموا في الدراسة وصفا تفصيليا لهذا النظام، مشيرين إلى أنه عبارة عن ألياف بوليمر مغطاة بهيدروجيل محمل بالبكتيريا وقشرة واقية تستجيب للأضرار، حيث تعمل شبكة الألياف الحيوية المدمجة داخل الخرسانة على تحسين متانتها، وتمنع الشقوق من النمو، وتمكّن من إصلاحها ذاتيا.
ويقول الأستاذ المشارك في كلية الهندسة بجامعة دريكسيل وقائد الفريق البحثي أمير فرنام في تقرير نشره الموقع الإلكتروني للجامعة: "هذا تطور مثير يستكمل الجهود المستمرة لتحسين مواد البناء باستخدام الإلهام من الطبيعة".
ويضيف: "نرى كل يوم أن هياكلنا الخرسانية القديمة تتعرض للضرر، مما يقلل من عمرها الوظيفي ويتطلب إصلاحات حرجة ومكلفة، فتخيل أنها تستطيع إصلاح نفسها كما تقوم أنسجة بشرتنا بذلك بشكل طبيعي".
وإذا كانت أنسجة البشرة تقوم بذلك من خلال بنية ليفية متعددة الطبقات مملوءة بالألياف بمساعدة سائل الشفاء الذاتي لدينا وهو الدم، فإن الألياف الحيوية (بايوفايبر) تحاكي هذا المفهوم وتستخدم البكتيريا التي تصنع الحجارة لإنشاء خرسانة حية ذاتية الإصلاح تستجيب للضرر، كما يوضح فرنام.
والبكتريا الصانعة للحجارة هي كائنات حية طبيعية تشارك في العديد من العمليات الطبيعية التي تساهم في تكوين الحجارة أو الرواسب المعدنية، ومنها:
ثيوباكيلوس فيروكسيدانس: وتعمل هذه البكتيريا على أكسدة مركبات الحديد والكبريت، مما يؤدي إلى تكوين معادن مثل أكاسيد الحديد والكبريتات، والتي يمكن أن تساهم في تكوين أنواع معينة من الحجارة.
ليبتوثركس ديسكوفورا: وتُنتج هذه البكتيريا أغلفة خيطية رفيعة يمكن أن تصبح مغطاة بأكاسيد الحديد أو المنغنيز، مما يساهم في تكوين الرواسب المعدنية.
البكتيريا الزرقاء: فبعض أنواع البكتيريا الزرقاء معروفة بمشاركتها في تكوين "الستروماتوليت"، وهي عبارة عن هياكل ذات طبقات تتشكل عن طريق محاصرة وربط الحبوب الرسوبية بواسطة الحصائر الميكروبية.
ليسينيباسيلوس كرويكوس: وهي بكتيريا معروفة بدورها في تكوين المعادن، وخاصة كربونات الكالسيوم.
البكتريا المنتجة لكربونات الكالسيوم
عمل الفريق البحثي مع البكتيريا "ليسينيباسيلوس كرويكوس"، حيث تتمتع هذه البكتيريا المعمرة التي توجد عادة في التربة، بالقدرة على دفع عملية بيولوجية تسمى ترسيب كربونات الكالسيوم لإنشاء مادة تشبه الحجر يمكنها الاستقرار والتصلب في رقعة للشقوق المكشوفة في الخرسانة.
ووجد الباحثون أنه عندما تُحفّز هذه البكتيريا لتكوين "بوغ" داخلي، يمكنها أن تنجو من الظروف القاسية داخل الخرسانة، وتبقى في حالة سبات حتى تُستدعى للعمل.
وتكوين الأبواغ الداخلية المعروفة أيضا باسم "التبوغ"، هو إستراتيجية البقاء التي تستخدمها بعض البكتيريا، وهي عملية معقدة تحدث عندما تصبح الظروف غير مواتية لنمو البكتيريا وتكاثرها، وتتضمن الخطوات المتبعة في تكوين البوغ الداخلي عادة ما يلي:
البداية: عندما تصبح الظروف البيئية غير مواتية (مثل استنفاد المغذيات أو الضغوط الأخرى)، تبدأ الخلية البكتيرية عملية التبوغ، حيث يتكثف الحمض النووي داخل الخلية البكتيرية ويصبح أكثر مقاومة للضرر.
تكوين الحاجز: تخضع الخلية البكتيرية لانقسام غير متماثل للخلايا، مما يؤدي إلى إنشاء حجرة أصغر تعرف باسم البوغ الأمامي داخل الخلية الأصلية.
تطور الخلية الأم والأبواغ الأمامية: تبتلع الخلية الأم الأبواغ الأمامية وتشكل غشاء مزدوجا حولها، وتوفر الخلية الأم العناصر الغذائية والحماية للجراثيم النامية.
تكوين القشرة والمعطف: يطور البوغ الأمامي طبقة قشرة توفر مقاومة للضغوط البيئية، ويتم تصنيع طبقة بروتينية حول القشرة.
النضج والانطلاق: يتشكل البوغ الداخلي الناضج داخل الخلية الأم، وفي نهاية المطاف تتفكك الخلية الأم، وتطلَق الأبواغ الداخلية في البيئة، ويظل البوغ الداخلي خاملا حتى تصبح الظروف مواتية مرة أخرى، مما يسمح له بالإنبات واستئناف النمو البكتيري الطبيعي.
وتتميز الأبواغ الداخلية بالمرونة بشكل لا يصدق، ويمكنها تحمل الظروف القاسية بما في ذلك الحرارة والجفاف والمواد الكيميائية والإشعاع، مما يجعلها آلية بقاء فعالة للغاية لبعض أنواع البكتيريا. وتُعرف بكتريا "ليسينيباسيلوس كرويكوس" التي استخدمها الباحثون بقدرتها الفائقة على تكوين الأبواغ الداخلية، مما يضمن استمرارها وإعادة تنشيطها المحتمل عندما تصبح البيئة أكثر ملاءمة للنمو والتكاثر.
كيف يعمل "بايوفايبر"؟
وإذا كانت البكتيريا هي العامل الأساسي في نظام "بايوفايبر"، فإن ما يميز هذا العمل عن محاولات سابقة لتوظيف البكتيريا هو اختيار المزيج الصحيح من البكتيريا والهيدروجيل وطلاء البوليمر، كما يوضح محمد هوشماند طالب الدكتوراه في مختبر فارنام الذي شارك في الدراسة.
ويقول هوشماند إنه "لتجميع بايوفايبر"، بدأنا بنواة من ألياف البوليمر قادرة على تثبيت ودعم الهياكل الخرسانية، ثم قمنا بتغليف الألياف بطبقة من هيدروجيل محمل بالأبواغ الداخلية من البكتيريا، وقمنا بتغليف المجموعة بأكملها بقشرة بوليمر تستجيب للتلف مثل أنسجة الجلد، ويبلغ سمك التجميع بأكمله ما يزيد قليلا عن نصف مليمتر".
ويشرح هوشماند آلية عمل النظام بأنه "يوضع بايوفايبر في شبكة بجميع أنحاء الخرسانة أثناء صبها، ويعمل كعامل دعم معزز، لكن قدراته الحقيقية لا يتم الكشف عنها إلا عندما يخترق الصدع الخرسانة بدرجة كافية لاختراق الغلاف الخارجي لبوليمر للألياف".
ويقول إنه "عندما يشق الماء طريقه إلى الشق ويصل في النهاية إلى الألياف الحيوية، فإنه يتسبب بتمدد الهلام المائي ودفع طريقه خارج القشرة نحو سطح الشق، وأثناء حدوث ذلك تُنشط البكتيريا من شكلها الداخلي في وجود الكربون ومصدر المغذيات في الخرسانة، وتتفاعل البكتيريا مع الكالسيوم الموجود في الخرسانة، وتنتج كربونات الكالسيوم التي تعمل كمواد تدعيم لملء الشقوق على طول الطريق إلى السطح".
ويعتمد وقت الإصلاح في نهاية المطاف على حجم الشق ونشاط البكتيريا، وهي آلية يدرسها الفريق حاليا، ولكن المؤشرات المبكرة تشير إلى أن البكتيريا يمكن أن تقوم بعملها في أقل من يوم أو يومين.
ويضيف أنه "على الرغم من أن هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به في دراسة حركية الإصلاح الذاتي، فإن النتائج التي توصلنا إليها تشير إلى أن هذه طريقة قابلة للتطبيق لإصلاح الشقوق دون تدخل خارجي، وهذا يعني أنه يمكن إنشاء بنية تحتية خرسانية حية وإطالة عمرها، مما يمنع الحاجة إلى إصلاحات أو استبدالات مكلفة".
مواجهة التحدي.. سؤالان بلا إجابة
ويبدي أستاذ هندسة التشييد بالجامعة الأميركية بالقاهرة محمد نجيب أبو زيد في حديث هاتفي مع "الجزيرة نت"، إعجابة بما توصل له الباحثون في دراستهم لقدرتهم على التغلب على أحد التحديات التي واجهت فرق بحثية سابقة عملت على استخدام البكتيريا في إصلاح شروخ الخرسانة ذاتيا، وهو التحدي المتعلق بالوقت، حيث رصدوا نجاح طريقتهم في دفع البكتيريا للقيام بالعمل في أقل من يوم أو يومين.
ويستطرد أبو زيرد بأنه يبقى سؤالان لم يُجب عنهما هما:
الأول: ما نوع الشروخ التي تصلح معها البكتيريا؟ فأحد التحديات المهمة التي أعاقت انتقال المعالجة بالبكتيريا إلى التطبيقات العملية، هو أنها تنجح مع الشروخ الصغيرة فقط والتي تقع على مراحل، ولا تصلح مع الشروخ الكبيرة والمفاجئة.
والثاني: مدى قدرة البكتيريا على العمل مجددا بعد إصلاح الشروخ؟ فهل إذا نجحت في إصلاح الشروخ مره، تستطيع أن تعمل مره أخرى؟
ومع ذلك، وحتى في ظل غياب الإجابة على السؤالين، تظل نتائج الدراسة في رأي أبو زيد، خطوة مهمة على طريق الانتقال بهذه التقنية إلى التطبيق بهدف إطالة عمر الخرسانة، وهو اختراق سيكون له أبعاد مادية فضلا عن أبعاد بيئية أهم.
ويُنظر إلى إطالة عمر الخرسانة بأنه يساعد على تقليل غازات الدفيئة، حيث إن عملية صنع مكونات الخرسانة بحرق خليط من المعادن مثل الحجر الجيري أو الطين أو الصخر الزيتي في درجات حرارة تزيد عن 2000 درجة فهرنهايتية يمثل 8٪ من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية.
ولأن الهياكل الخرسانية يمكن أن تتحلل في أقل من 50 عاما اعتمادا على بيئتها، فإن الخرسانة تعتبر أكثر مواد البناء استهلاكا وطلبا في العالم، ومن شأن إنتاج الخرسانة التي يمكن أن تستمر لفترة أطول أن يشكل خطوة كبيرة في الحد من مساهمتها في ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، ناهيك عن خفض التكاليف الطويلة الأجل لإصلاح البنية التحتية، كما يوضح أبو زيد.
المصدر : الجزيرة + وكالات