وحمل الباحث والمؤرخ الراحل اسم جدّه الخامس الذي قاد انتفاضةً ضد الوالي العثماني "خورشيد باشا"، فقابلها الاحتلال بالقمع والقتل، ولحق الحفيد الذي ولد في 17 كانون الثاني 1939 بخطا جده، وحجز مكاناً له في تاريخ حلب، التي تسكنها عائلته منذ أكثر من 600 عام.
ونشأ المؤرخ محمد قجّة في أحضان عائلة مولعة بالعلم والثقافة، إذ كان والده يباريه بالشِعر، ويوجهه لقراءة الكتب، فكان ديوان المتنبّي المكتوب بخط اليد، الرفيق الأول للأديب الراحل، الذي حفّز عنده حبّ الشعر والأدب وحفظ القرآن والاطلاع على سير الملوك.
وبينما كان أقرانه من الأطفال يشترون الألعاب، كان “قجّة” يشتري الكتب ليبني مكتبة وصل حجمها لاحقاً إلى أكثر من 13 ألف كتاباً في التاريخ والفلسفة والعلوم الإنسانية المختلفة، بحسب ما ذكرت جريدة “البعث”، في مقابلة سابقة معه.
ولم يكد “قجّة” يصل إلى المرحلة الإعدادية حتى بدأ بكتابة الشعر، وتابع تعليمه الثانوي في مدارس حلب، قبل أن يتوجّه إلى دمشق، إذ نال إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق عام 1963.
وانطلقت حياته المهنية من التعليم في مدارس حلب، ثم أصبح مديراً لثانوية “المأمون” أشهر مدارس عاصمة الشمال بين 1960 و 1980.
ودفعه الشغف بالعلم والتاريخ والأدب إلى عدم الوقوف عند حدّ الوظيفة الإدارية، فانطلق إلى الجزائر، إذ نال ماجستيراً في تاريخ الأندلس، التي لطالما عبّر عن إعجابه بأيام عظمتها، حينما كانت عاصمةً للفكر والثقافة في العالم، واعترف أنه لو كان سيختار عصراً ما ليعيش فيه، سيختار عصر قرطبة الأندلسية.
عاد “قجّة” حاملاً قرار التفرّغ للتأليف والبحث والتوثيق، وتوّجت رحلة أبحاثه الطويلة باكتشاف موقع منزل “المتنبي” في حلب، وبدأ العمل على تحويله إلى متحف لكن اندلاع الحرب على سورية، حال دون ذلك.
ووضع الرجل الثمانيني الذي يحمل إرثاً معرفياً شاملاً، ويلمُّ بمعارف شتّى، أكثر من 20 كتاباً تحوّلوا إلى مراجع أساسية عن حلب، منها: "الكتاب الذهبي لتوثيق فعالية حلب عاصمة للثقافة"، "فلسفة العمارة الإسلامية حلب نموذجاً".
و"الحياة الفكرية في العصر الأيوبي"، "قلعة حلب صوت من التاريخ"، "محطات أندلسيّة"، فضلاً عن عدد كبير من المقالات واللقاءات الصحفية التي باح خلالها بتفاصيل حبّه لمدينته.
وتحدّث “قجّة” عن تاريخ حلب وحضارتها وعمارتها ووصف عاداتها وطقوسها والحياة الأدبية لكل كاتب عاش فيها، في كتابه الأخير الذي حمل عنوان "حلب في كتاباتي وقصائدي".
وكانت رحلة “قجّة” المهنية حافلة بتسلّمه لمناصب ومهام عدة، فترأّس "جمعية العاديات"، والتي تهدف لحماية الآثار والتراث السوري عام 1994.
وعمل على توسيع نشاطها ونشر فروعها في المدن السورية كافة ورفد مكتبتها بأكثر من 15 ألف عنوان، إضافةً إلى مئات الأشرطة المسجّلة وأشرطة الفيديو وآلاف الصور والوثائق.
وتسلّم عام 2006 منصب الأمين العام لاحتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، التي اعتبرها رئيس المنظمة الإسلامية “عبد العزيز التويجري” نموذجاً ناجحاً يمكن تطبيقه في احتفاليات العواصم الثقافية الأخرى، وفق ما نشرته وكالة “سانا”، آنذاك.
كما عيّن “قجّة” مستشاراً لـ”اليونيسكو” في سوريا لشؤون التراث اللامادي عام 2010، ونال عضوية الاتحاد العام للآثاريين العرب، واتحاد الكتّاب العرب، والمجلس الوطني للإعلام، والجمعية السورية لتاريخ العلوم، ومعهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب.
الجدير ذكره أن رجل الثقافة الحلبي الكبير، والذي كان بيته مقصداً للكتاب والشعراء، من أمثال “أدونيس”، “فاتح المدرّس”، “طلال حيدر”، “يوسف زيدان”، و “صباح فخري”، حصل على عشرات الدروع والتكريمات من جهات رسمية وأكاديمية تكريماً لتاريخه الحافل.
المصدر: تلفزيون الخبر