كثيرة هي التحليلات والتوقعات، سواء لجهة الانتخابات الرئاسية ومن سيخلف رئيسي في منصبه، وذهاب البعض في الحديث عن تناحر ومعارك على المنصب، أو لجهة تغيير طهران لسياستها الخارجية، وخاصة في دعم فلسطين ودول محور المقاومة، لتقع جميع تلك التحليلات والتوقعات المغرضة، في أحد أمرين، إما في جهل وعدم فهم عقيدة الثورة الإسلامية، أو في سياق النيات السيئة، والأماني بأن تكون الحادثة الفاجعة بداية لانهيار مبادئ الثورة في إيران، وبين هذا وذاك فإن أصحاب ذاك الرأي وتلك الأماني يجهلون أو يتجاهلون بأن رجال السياسة والقادة في الجمهورية الإسلامية، لا يمثلون في جوهر سياستهم شخصيات منفصلة عن النهج العام، بل هم في المحصلة يمثلون نهجاً أسس له قائد الثورة الإسلامية الأمام الخميني، نهجاً مقاوماً للصهيونية والظلم والاستكبار العالمي، وهو ما أكده قائد الثورة الإسلامية الإيرانية علي الخامنئي خلال لقائه أول من أمس عوائل بعض منتسبي قوات حرس الثورة الإسلامية حين قال "نؤكد للشعب الإيراني ألا داعي للقلق ولن يكون هناك أي خلل في عمل البلاد".
من المؤكد أن جميع الأقوال بأن إيران قد يتهددها الخطر جراء استشهاد رئيسي ورفاقه، ليست سوى أماني مغرضين وصرخات في واد، لسبب رئيس ومهم وهو أن إيران دولة مؤسسات، وهي جاهزة من الناحية الدستورية والتنظيمية لمواجهة أي حدث طارئ كما تواجهه اليوم، الأمر الذي أثبته الواقع، حيث "تنص المادة 131 على أنه في حالة وفاة رئيس الجمهورية، أو عزله، أو استقالته، أو غيابه أو مرضه لأكثر من شهرين، أو في حالة انتهاء فترة رئاسة الجمهورية وعدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية نتيجة وجود بعض العقبات أو لأمور أخرى من هذا القبيل، يتولى النائب الأول للرئيس أداء وظائف رئيس الجمهورية، ويتمتع بصلاحياته بموافقة قائد الثورة الإسلامية"، الأمر جرى تطبيقه مباشرة بعد إعلان استشهاد رئيسي، حيث أعلن الخامنئي أنه "حسب المادة 131 من الدستور، يتولى السيد (محمد) مخبر إدارة السلطة التنفيذية ويتعين عليه الترتيب مع رئيسي السلطتين التشريعية والقضائية لانتخاب رئيس جديد خلال مدة أقصاها خمسون يوماً"، كما تم انتخاب وبعد موافقة الحكومة، علي باقري كني مشرفاً على وزارة الخارجية، وبالأمس تم انتخاب موحدي كرماني رئيساً لمجلس خبراء القيادة في إيران بأغلبية 55 صوتاً، وتحديد يوم 28 الشهر المقبل ليكون يوم الانتخابات الرئاسية الرابعة عشرة في إيران.
على الصعيد الخارجي، فإن ما تميز به رئيسي من دعم كبير لفلسطين ولقضيتها وشعبها، نابع من تمسكه بثوابت الثورة الإسلامية في دعمها للقضية الفلسطينية وخاصة بعد عملية "طوفان الأقصى"، وكان يرى أن بلاده لا تستطيع التوقف عن دعم فلسطين، وأنّ تطورات العالم السياسية ورغبات بعض الدول في المنطقة لن تُغير المبادئ الأساسية لسياسة طهران الخارجية، وشدد بعد بدء "طوفان الأقصى" على أن دعم الجمهورية الإسلامية للشعب الفلسطيني "يأتي ضمن إطار الدستور وما ينصّ عليه بشأن دعم المظلومين، وأيضاً كجزء من مبادئ السياسة الخارجية الإيرانية"، كما اعتبر أن هذه العملية كسرت هيمنة الكيان "الإسرائيلي" وأدت إلى هزيمته عسكرياً واستخبارياً، وقد أعتبر في آخر كلماته في "أذربيجان" قبيل تحطم مروحيته واستشهاده أن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى في العالم الإسلامي.
الأمر ذاته على صعيد العلاقات السورية - الإيرانية، فهي ترتكز على قواعد إستراتيجية عميقة، وليست وليدة اليوم وليست للغد فقط، منطلقة من قلب الثورة الإيرانية، حيث أسس لها الرئيس الراحل حافظ الأسد والإمام الخميني منذ عام 1979، وعززها الرئيس بشار الأسد والإمام الخامنئي، وهو ما أوضحه وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد أمس بحديثه لقناة "الميادين" حيث قال "نتفق مع إيران على العداء لـ "إسرائيل" وعلى أولوية القضية الفلسطينية، والعلاقة مع إيران إستراتيجية ولا خوف على العلاقة معها في المستقبل، ومهما تبدلت الأحوال فإن علاقاتنا مع أي رئيس إيراني مقبل ستكون إستراتيجية كما كانت سابقاً".
من المؤكد أن الحدث جلل والفاجعة كبيرة، إلا أن تجربة إيران في تجاوز مثل أحداث كهذه ليست الأولى، إذ بدأت مع الرئيس الأول للجمهورية، أبو الحسن بني صدر، الذي عزل في 10 حزيران 1981، لتعقد انتخابات مبكرة أسفرت عن فوز رئيس الوزراء آنذاك، محمد علي رجائي برئاسة الجمهورية، لكنه لم يتولى الحكم سوى 28 يوماً فقط، قبل أن يتعرّض للاغتيال هو وعدد من القادة الحكوميين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء محمد جواد باهنر.
المصدر: الوطن