إن كثيرين لا يعرفون من بيرم! بل يضعونه اجتماعياً إلى جانب شوقي ورامي وصالح جودت، وهو وإن كان من الناحية الشعرية والأدبية قد يتفوق على كثيرين، إلا أن ما يفاجئ الكثيرين، وأنا منهم، منبت بيرم وثقافته، فكلنا اكتفينا بسماع أغنياته الرائعة وقصائده الزجلية، وخاصة ما شدت به سيدة الغناء العربي أم كلثوم (الأولة في الغرام، أنا في انتظارك، الآهات، القلب يعشق كل جميل) وغيرها، ولكنني من شغفي بهذا الشاعر المختلف، وبدافع من عبارة شوقي عنه صرت أبحث عنه في الكتب والموسوعات وكتابات الباحثين، ولكن أغلب هذه الكتابات تتناول بيرم شاعراً. وبإجلال كبير دون أن تدخل في التفاصيل، وعثرت في أثناء بحثي على آخر حديث أدلى به بيرم التونسي وبصوته، وهنا كانت المفارقة مع صراحة الشاعر ووضوحه "جدي الأعلى جاء من تونس، ووالدي ولد في مصر، وأنا ولدت في مصر، وحملنا النسبة إلى تونس، عملنا في وكالة أقمشة لنا، ومات أبي وأنا صغير، لذلك بدأت في العمل، ولم أدرس غير الصف الأول الابتدائي، وبقيت عاجزاً عن القراءة والكتابة، والذي علمني القراءة "جزء عمَّ"، حيث كنت أقرأ فيه قصار السور وأحفظ، وتدربت على القراءة فيه، وصرت أقرأ الكتب البسيطة، وتدرجت في القراءة حتى صرت أقرأ في كتاب الأغاني ونفح الطيب، فتحت دكاناً وأنا ولد صغير أبيع فيها، وبقيت ست سنوات فيها ولم أنجح، حاولت أن أصدر مجلة لكن لم يسمح لي، فذهبت إلى الإسكندرية".
وهنا تبدأ رحلة بيرم التونسي مع الصحافة والشعر الزجلي.
الصحافة وورطة بيرم
في ذلك الوقت كانت الصحافة حلماً لكل أديب من الأدباء، وهي التي ضمت العقاد والرافعي وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسواهم، وأراد بيرم أن يدخل ميدان الصحافة، وحين لم يسمح له ذهب إلى الإسكندرية، واستصدر ترخيصاً كما يقول باسم (المسلة- لا هي جريدة ولا هي مجلة) وفي العدد الأول انتقد الملك والإنكليز، ويقول كتبت زجلية لا أستطيع أن ألقيها على الإذاعة، فأغلقت المجلة، وحكم عليه بالنفي، نفي أولاً إلى تونس لأنها موطن أجداده، لكنهم أنكروه ولم يستقبلوه كما يجب، وربما كان ذلك لأسباب سياسية، فغادر تونس إلى فرنسا وهناك عاش أعواماً طويلة، زادت على عشر سنوات، وحين سئل عن تعلمه الفرنسية قال: (أنا لم أكن أعرف العربية وتعلمتها، وفي فرنسا بدأت أعلم نفسي الفرنسية حتى أجدتها، وتمكنت من الحياة هناك كل هذه المدة، من تلقاء نفسه تعلم الفرنسية وأتقنها، وحين علم أن الملك قد مات حزم حقائبه وقرر العودة!
قلت لنفسي: الذي نفاني مات، ولن يرجعني أحد، وفعلاً عدت من فرنسا ولم يمنعني أحد، ولم يطلب مني واحد أن أغادر، وإلى الآن أنا مستقر دون أن يعترضني أحد.. فمن الصحافة وبسببها بدأت حياة بيرم المشاغبة والقاسية، واستمر في الكتابة للصحافة، وكان شاعراً فصيحاً، لكنه يقول: وجدت أن الشعر الفصيح لا يصل للناس فتركته ولجأت إلى الزجل.
مصادر شعره الزجلي
تحدث بيرم عن مصادر شعره الزجلي، فهي من أهازيج ليبيا وتونس وجنوب مصر، وكان يروي بعض الأزجال التي سمعها ويشرحها ويبين مصادر جمالها، ثم بدأ بأزجال مصر من الجنوب المصري صعوداً، وفي كل مكان كان له الرأي في الجودة والإتقان والمعاني، وهذه المصادر شكلت شاعرية بيرم الأصيلة المرتبطة بالأرض والإنسان، وبالشعر الأصيل الذي سمعه، ليشكل بذلك موهبته التي ذاعت في كل أرجاء الوطن العربي، فنحن أمام شاعر فصيح أصيل، وشاعر ينتمي إلى الأرض والموروث الشعبي العربي الممتد من بلدان المغرب العربي إلى الشام، والطريقة البارعة التي كان بيرم يسرد فيها حياته ويتحدث عن نفسه فيها الكثير من الصور والوضوح والبراعة.
تواضع العبقرية
حين كان يسأل عن الأعمال التي ينجزها، ذكر أعماله التي شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم دون أن يتوقف عندها طويلاً، فهي أعمال يكتفي بسردها، وحين سئل عما يعمل الآن قال: أكتب أشياء، وأكتب فوازير، وبانتظار أوامر السيدة أم كلثوم لتطلب مني أن أكتب لها أغنية جديدة! بيرم التونسي بكل عبقريته وتاريخه وشهرته، ويشهد له أحمد شوقي وكبار الشعراء، ويشهد له الملحنون، وقد لحن له الكبار من أمثال السنباطي وزكريا أحمد يتحدث بهذه العفوية والتلقائية، وعلينا أن نلاحظ أن هذا الحديث يدلي به بصوته وهو في أوج شهرته، إذ يصرح بأنه بلغ 67 سنة، وببساطة المبدع المهوّس بإبداعه يكتب الفوازير، وينتظر أوامر السيدة أم كلثوم، ما بين دراسته في السنة الابتدائية الأولى ولم يتمها، وتعلمه القراءة والكتابة ونفيه، وكتابة أبدع أغنيات زمانه ستون عاماً قضاها ولم تستطع هذه الرحلة أن تجعل بيرم التونسي متشاوفاً مغروراً، بل بقي ذاك المبدع الطيب الذي لا يخرج عن إطار تواضعه الذي يدرك ما لديه.
من خبرته بلا أصدقاء وتجاربه
هذا العذب الذي لا يدانيه في لطفه أحد وهو يقول: (دعاني لبيته لحدّ باب بيته) ويتابع (ولما تجلى لي بالدمع ناديته) وهو الذي يقول: (أنا في انتظارك مليت) عندما سئل عن الشيء الذي يفضله صدم السائل، ويصدم السامع (أتمنى أن أقضي حياتي بلا أصدقاء)، وأمام استغراب السائل أضاف بيرم: أريد أن أرتاح من الأصدقاء، أو أريد أن أريحهم مني، فهو لم يترك العلة في أصدقائه، بل نسبها لنفسه ولهم، فقد يكون هو ومزاجه السبب، وقد يكون السبب من أصدقائه.
وفي هذا القول من بيرم الأغنية والنغم ومنادمة المطربين والملحنين، وابن السابعة والستين فيه الكثير من القول ويستحق الوقوف عنده، فماذا حصل مع بيرم وأصدقائه ليكون بهذا الرأي؟ والغريب أن هذا الرأي كان حاداً وبلا مجاملة ولا مراجعة، ويمكن أن يمثل لكثيرين رأياً يؤخذ به، ويقوم على التجربة.
بساطة الحياة
يبدو أن بيرم كان مشرفاً على النهاية ويعرف ذلك، فقال: أنا أسكن في السيدة، وحي السيدة من الأحياء الشعبية البسيطة، مع تذكر أن هذا الشاعر يكتب لأم كلثوم، ويعادل وزن شوقي في الزجل.
يتابع: قالوا لي: لماذا لا تسكن في الزمالك؟ قلت: لا، سأبقى في السيدة، لأن الإيجار في الزمالك يصل إلى 20 جنيهاً ونحتاج 10 جنيهات مصروفاً، وهذا المبلغ أستطيع تأمينه، ولكنني لا أستطيع أن أنتقل إلى هناك وأترك أرملتي تطرد من البيت، لأنها لن تستطيع تأمين 30 جنيهاً شهرياً، فأنا أسكن في السيدة ولن أنتقل إلى الزمالك!
الحديث جاء هكذا دون أي نوع من الرتوش، ولذلك كان آسراً وعذباً ومؤثراً بتلقائية بيرم، وكأنه يردد رائعته الآهات.
العبرة والخاتمة
ولو لم يستطع دراسة الأول الابتدائي علّم نفسه بنفسه، ومن قراءته وتدبره وحفظه لجزء عم أتقن العربية، وقرأ في أمهات الكتب، وصار شاعراً فصيحاً خبيراً في العروض، وعمل في الصحافة وانتقل إلى الزجل والصورة الشعرية المتفوقة، وحين وجد نفسه مضطراً ومنفياً أتقن الفرنسية بالحوار والحياة دون وجود معلم، عاد ليكون أهم شاعر زجلي في تاريخ العربية عامة، وليس في مصر، فحسده شوقي، وانحاز إلى زجلياته رامي ليأخذ من مكانته عند أم كلثوم.. أسس مدرسة زجلية عربية فريدة وقوية، بلغة متينة حتى وإن كانت بدوية، وبصور شعرية فنية أخاذة، ليتعلم أبناؤنا، ولنتعلم نحن قبلهم سيرة هذا الشاعر الكبير، ولا بأس من الاعتراف بأننا نجهل الكثير عنها، لعلنا نتبع منهجه في البحث عن الذات، والاكتفاء بما بين أيدينا دون أن نعيش في عوالم لا تشبهنا.
محمود بن محمد مصطفى بيرم الحريري
ولد عام 1893، شاعر وزجال وصحفي، حاز جائزة الدولة التقديرية 1960، توفي عام 1961.
أبرز آثاره
مجموعته الشعرية، أغنياته لأم كلثوم (أنا بانتظارك، هو صحيح الهوى غلاب، الأولة في الغرام، الآهات، شمس الأصيل، الحب كده، القلب يعشق كل جميل، غني لي شوي شوي).
ولفريد الأطرش منها (بساط الريح، أحبابنا يا عين).
وفي المونولوج (يا أهل المغنى دماغنا واجعنا يا حلاوة الدنيا يا حلاوة).
وله مجموعة أغنيات وطنية في الثورة.
المصدر: الوطن