رسائل النار لأهداف سياسية .. كتب محمد نادر العٌمري

الخميس 30 مايو 2024 - 09:32 بتوقيت غرينتش
رسائل النار لأهداف سياسية .. كتب محمد نادر العٌمري

ازدادت في الآونة الأخيرة حدة ملامح التصعيد العسكري في إطار الصراع ما بين الفصائل المقاومة في قطاع غزة وقوات الاحتلال "الإسرائيلية"، إذ وبالرغم من مرور أكثر من ثمانية أشهر من بدء العدوان "الإسرائيلي" على القطاع وأهله وعدم توقف الآلة العسكرية إلا لفترة محدودة لم تتجاوز تسعة أيام أثناء التهدئة المؤقتة الأولى التي تم التوصل إليها نهاية العام الماضي.

فإن هذه المرحلة اتسمت من خلال ما شهده مسار المواجهة باستخدام القوة العسكرية وتوظيفها لتحقيق أهداف سياسية، سواء لدى المقاومة الساعية لإحباط معنويات جنود الاحتلال وتحريك الشارع "الإسرائيلي" ضد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لزيادة الضغط عليه لوقف الحرب والتوصل لصفقة تتضمن فك الحصار عن القطاع وتحرير المعتقلين الفلسطينيين من سجون الاحتلال والشروع والبدء بإعادة الإعمار، في المقابل فإن حكومة الاحتلال وبصورة خاصة رئيس حكومتها "بنيامين نتنياهو" واليمين المتطرف، يبحثون عن أي إنجاز ولو على المستوى الإعلامي للبقاء في السلطة واستمرار العدوان.

قد يقول البعض إن "الأهداف السياسية التي أعلنتها المقاومة منذ بدء عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول العام الماضي، والأهداف الثلاثة المعلنة وغير المعلنة التي تبناها الكيان منذ بدء عدوانه، لم تتغير، بل لطالما كان استخدام القوة العسكرية هو لبلوغ غايات سياسية"، فلماذا نتحدث الآن عن زيادة رسائل النار لأهداف سياسية؟ وإلى ماذا نستند في هذه المقاربة؟

في الحقيقة فإن الشق الأول من السؤال هو صحيح، ولكن هناك مجموعة من المؤشرات التي تجعلنا نلمح زيادة هذا التصعيد لتحقيق أهداف سياسية، ولاسيما بعد عدم تمكن قوات الاحتلال من تحرير أسراه بالقوة العسكرية وفشلها في تدمير المقاومة وكذلك فرض هيئة إدارة مدنية لحكم القطاع، في المقابل، فإن المقاومة وبالرغم من كل انجازاتها العسكرية إلا أنها تواجه عقلية اليمين المتطرف الرافض لأي خضوع لمطالب المقاومة، لكون الإقرار بمطالب المقاومة، وفق زعم اليمينيين، هو هزيمة لإسرائيل واعتراف بشرعية الفصائل المقاومة ومن خلفها محور المقاومة، بمعنى أكثر دقة فإن عدم قدرة أي من المقاومة وقوات الاحتلال على تحقيق نصر حاسم في الميدان، تدفعهما لاستعراض القوة وتوظيفها لتحسين تموضعهم السياسي سواء على مستوى طاولة المباحثات أم في المواقف أو حتى ضمن إطار استقطاب التأييد الشعبي.

هذا التصعيد في جبهات الاشتباك تمثل في عدة نماذج تضمن كل منها تحقيق غايات تشكل في عناصرها الجزئية رسائل متكاملة على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، حيث تجلت هذه النماذج في:

أولاً- إعلان الناطق العسكري باسم كتائب عز الدين القسام أبو عبيدة، عن أسر وقتل وجرح جنود "إسرائيليين" والاستيلاء على معداتهم العسكرية خلال عملية مركبة عصر السبت الماضي بمخيم جباليا شمال قطاع غزة رغم إنكار القيادتين السياسية والعسكرية "الإسرائيلية" حصول ذلك، بعدها وبأٌقل من 24 ساعة تمكنت المقاومة من إطلاق مجموعة صواريخ من مدينة رفح لعمق الأراضي المحتلة وفق ما اعترفت به إذاعة الاحتلال.

إلى جانب البعد العسكري لهاتين العمليتين في امتلاك القدرة على المراقبة والاستطلاع والجهوزية والتنسيق والمرونة في التنقل والتخطيط والتنفيذ، فإنها تتضمن أهدافاً سياسية ولاسيما أنها تتزامن بتوقيت سياسي يتسم بعرقلة حكومة الاحتلال التوصل لاتفاق لتبادل للأسرى وافقت عليه المقاومة مطلع الشهر الحالي من ناحية، ومن ناحية أخرى في ظل اتساع نطاق التظاهرات الداخلية والدولية للمستوطنين في كثير من الجامعات والشوارع الأوروبية والأميركية الداعية لوقف الحرب، ومن ناحية ثالثة مع تفاقم الانقسام البنيوي الذي يشهده مجلس الحرب واحتمال انفراطه في حال نفذ الوزير بني غانتس تهديده بالانسحاب من عضويته.

وعليه تتمثل الرسائل السياسية للمقاومة من هاتين العمليتين في نقاط عدة وفق ثلاثة مستويات:

المستوى الأول يتمثل بالداخل الفلسطيني وعلى صعيدين، الأول لطمأنة الحاضنة الشعبية التي قدمت الكثير من التضحيات في غزة وحتى مدن الضفة، بأن المقاومة مازالت متماسكة ولم تتعرض لخسائر كبيرة وفق ما يروج له الاحتلال، ومازالت تمتلك القدرة على المواجهة والمباغتة والمفاجئة، أما الصعيد الثاني يتضمن رسالة لبعض القوى السياسية الفلسطينية التي تراهن وتنتظر هزيمة المقاومة لتحقيق مصالح سلطوية على غرار المراهنة التي غرست في نفوس وتمنيات بعض القوى اللبنانية عام 2006 في هزيمة حزب الله.

المستوى الثاني يتعلق بالداخل "الإسرائيلي" وفق مسارين، المسار الأول يتمثل في تأزيم وضع "نتنياهو" ومحاولة توسيع الشرخ في المواقف السياسية داخل المشهد السياسي سواء داخل الحكومة أم الكبينت أو مجلس الحرب، في حين يتجلى المسار الثاني في زيادة تحشيد المستوطنين ضد حكومة نتنياهو سواء من خلال كشف زيف ادعاءاته وتعريتها عندما ادعى نجاح قواته في تدمير قدرات المقاومة شمالاً وسعيه لاستمرار العدوان لتدمير بنية المقاومة الصاروخية، أم من حيث زيادة خسائر قوات الاحتلال وزيادة عدد الأسرى، الأمر الذي دفع وقد يدفع الآلاف للتظاهر ضد "نتنياهو"، ليس فقط من أجل استعادة الأسرى بل خشية على حياة أبنائهم من جنود الاحتياط، ولاسيما بعد نجاح المقاومة بالتأثير على الرأي العام "الإسرائيلي" من خلال ما يمكن تسميته بسيكولوجية الجماهير في إدارة الحرب النفسية.

المستوى الثالث من الرسائل السياسية هو للقوى الإقليمية والدولية الوسيطة في المفاوضات، إذ يمكن القول: إن المقاومة تسعى لتخفيف الضغوط المصرية القطرية عليها للتوصل لاتفاق لا يلبي مطالب الشعب الفلسطيني من خلال إثبات مقدراتها وكفاءتها وجهوزيتها العسكرية، وخاصة بأن واشنطن وتل أبيب مارستا ضغوطاً على هذه القوى الإقليمية لممارسة ذلك قبل اللجوء لسياسة التفريق بين الوسطاء واتهامهم بتحريف المقترحات على غرار الاتهام الذي وجهته شبكة CNN الأميركية للقاهرة بتغيير بعض بنود المقترح الأخير وذلك لتبرير رفض إسرائيل له، كما أن المقاومة تسعى لإقناع إدارة البيت الأبيض بعدم جدوى استمرار الدعم الأميركي لـ "إسرائيل" وارتداد ذلك سلباً على هذه الإدارة داخلياً وخارجياً، إلى جانب زيادة الحرج إن لم نقل العزلة للولايات المتحدة على الساحة الدولية.

في المقابل، فإن قوات الاحتلال "الإسرائيلية" سعت لتحقيق عدة غايات سياسية من خلال عدوانها على مخيم للنازحين بحي تل السلطان في شمال غرب رفح، نجم عنه 40 شهيداً معظمهم من الأطفال والنساء، قبل أن تقدم قوات الاحتلال على قتل أحد جنود الجيش المصري المكلفين بتأمين منطقة الشريط الحدودي في رفح، وأبرز هذه الغايات تتمثل في:

على المستوى الداخلي فإن حكومة الاحتلال هدفت من خلال هذين التصعيدين إلى تحقيق مآرب عدة، في مقدمتها محاولة إظهار قدراتها العسكرية بعد الصفعة التي تلقاها الكيان نتيجة الكمين ووصول الصواريخ لداخله ونتيجة اتساع واقع خوف المستوطنين من العودة لمستوطناتهم في الشمال وضمن غلاف غزة نتيجة عدم الثقة بمقدرات مؤسساتهم في ظل العمليات النوعية للمقاومة الفلسطينية واللبنانية من جانب، ومن جانب آخر تسعى هذه الحكومة من ارتكاب المزيد من المجازر ولاسيما في رفح إلى استرضاء الناخبين المتطرفين الذين يشكلون المرتكز الداعم لهذه الحكومة، إضافة إلى ذلك وفي إطار ضيق خيارات نتنياهو السياسية الداخلية فإنه يسعى لتخفيف وتيرة ضغط التظاهرات ومواقف معارضيه عبر إقناعهم بعدم جدوى الحلول السياسية ومحاولة لفت الأنظار الداخلية عبر افتعال أزمة مع مصر بما يخدم توجه نتنياهو للحفاظ على تجانس مجلس الحرب وعدم السماح بانفراطه.

أما على المستوى الفلسطيني فإن ارتكاب المزيد من المجازر وخاصة في رفح تحمل رسالة واضحة المعالم تسعى حكومة نتنياهو من خلالها لتهجير الفلسطينيين من القطاع، ومحاولة تأليب الحاضنة الشعبية على المقاومة، وممارسة الضغوط على الأخيرة للقبول بصفقة تسمح بإعادة الأسرى الصهاينة من دون ضمان وقف العدوان على القطاع.

أما على المستويين الإقليمي والدولي فإن الرسائل السياسية للكيان لا تحتاج لنقاش، سواء كان ذلك كرد على الضغوط الدولية والتي تجلت مؤخراً في قرار محكمة العدل الدولية بوقف العمليات العسكرية "الإسرائيلية" في رفح دون سائر مناطق القطاع المنكوبة، أم مع اقتراب محكمة الجنايات لإصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه، أو كتعبير عن عدم الاكتراث للمطالب الدولية الرسمية وغير الرسمية بوقف العدوان على قطاع غزة، وما تسريب "القناة 13" "الإسرائيلية" عن احتمال التوصل لصفقة قريبة ومنح الوفد المفاوض صلاحيات ومرونة أكثر سوى مناورة "إسرائيلية" بهدف التنصل من المسؤولية وذر الرماد في العيون، لتبقى كلمة الفصل للميدان وحده في بلورة اتفاق شامل لا يبدو قريباً وإن تم التوصل لاتفاقات جزئية أو على مراحل.

كاتب سوري

المصدر: الوطن

 

جميع الحقوق محفوظة لقناة العالم سورية 2019