اختار الرئيس الروسي الصين لتكون أول بلد يقوم بزيارته بعد أن أعيد انتخابه رئيساً، في خطوة تعكس النقلات النوعية نحو تمتين العلاقات بين البلدين، اللذين قطعا أشواطاً كبيرة في التوجه نحو صياغة علاقات ثنائية إستراتيجية وهذا ما سبق وفعله الرئيس الصيني "شي جين بينغ" أيضاً، في آذار 2023 بعد إعادة انتخابه رئيساً لبلاده، عندما قدم إلى روسيا في أول زيارة خارجية له علماً أن الرئيسين التقيا، خلال العقد الماضي، أكثر من أربعين مرة تقريباً، وبوتين قام بزيارة دولة إلى الصين، بناء على دعوة من رئيسها شي، وكان على طاولة الاجتماع بينهما؛ جملة من القضايا، من ضمنها حربا أوكرانيا وغزة، والتعاون ضمن مجموعة "البريكس"، والتعاون الاقتصادي- الدفاعي الثنائي، ووصفت وسائل إعلام روسية هذه الزيارة بالتاريخية، حيث تأتي في ظروف تتعرض فيها روسيا لعقوبات دولية كبيرة، في حين تتعرض الصين أيضاً لضغوطات غربية يولي المراقبون وصناع السياسة في الغرب، اهتماماً خاصاً للتعاون بين الصين وروسيا لتنمية روابطهما الاقتصادية، رغم أن الولايات المتحدة، كانت قد كثّفت، مؤخراً، ضغوطها على الشركات والمصارف الصينية للحدّ من تلك الروابط، باعتبار أنها "تسهم في تدعيم الحرب الأوكرانية"، في خضمّ "الانتكاسات" التي تعاني منها القوات الأوكرانية أخيراً.
المحلّل والكاتب وعضو مجلس الإدارة في "الجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط»، رونغ هوان، أكد أن التجارة والتعاون مع روسيا هو "حق مشروع للصين"، كما هو الحال مع أي دولة أخرى في العالم، وهذا ما يدفع بكين إلى التأكيد مراراً، بحسب رونغ، أن «شراكتها مع موسكو، لن تتأثّر بأي ضغوط من أي طرف ثالث، وأنّها ترفض أن يتم تشويه التعاون الروسي- الصيني".
بالمقابل أفادت وكالة "شينخوا"، في أعقاب لقاء شي وبوتين الأخير بأنّ الطرفين وقّعا بياناً مشتركاً "لتعميق الشراكة الإستراتيجية الشاملة، والتوقيع على عدد من «وثائق التعاون المهمّة" الأخرى.
ووفقاً للبيان المشترك الصادر، ستشهد المرحلة المقبلة تطوير التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي والاتصالات والبرمجيات وأمن الشبكات والبيانات، وفي الاستجابة لـ "حالات الطوارئ".
كما شدّد الطرفان، في بيانهما، على ما يتعلّق بالممارسات الغربية الأخيرة، مؤكدَين أن "الولايات المتحدة ما زالت تفكّر بمنطق الحرب الباردة، وتسترشد بمنطق المواجهة بين الأحلاف"، معارضين "تدخُّل" واشنطن في بحر الصين الجنوبي، ونشر أسلحتها الصاروخية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، باعتبار أن هذه الخطوات "مزعزعة للاستقرار وتشكل تهديداً مباشراً لأمن البلدين".
كما أكد الرئيسان ضرورة "إطلاق مفاوضات في شأن التوصّل إلى معاهدة لمنع نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي" في أسرع وقت.
وحول الشرق الأوسط، أكد البيان أن التوصل إلى "حل عادل للقضية الفلسطينية يكتسب أهمية خاصة".
زيارة بوتين إلى بكين وجهت رسالة من البلدين إلى العالم؛ مضمونها أن الشراكة الإستراتيجية، والتي أعلن عنها قبيل بدء الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، هي شراكة مستمرة، وأن التبادل التجاري والروابط الاقتصادية ازدادت بنحو 64 في المئة منذ إعلان الشراكة الإستراتيجية قبل عامين.
الشراكة الإستراتيجية بين البلدين ذات بعدين اقتصادي وإستراتيجي: فمن الجانب الاقتصادي، ازدادت التجارة بين البلدين، وصل التبادل التجاري إلى نحو 240 مليار دولار في عام 2023، وصدّرت روسيا النفط والغاز إلى الصين بشكل أساسي، في حين غلبت السيارات على الصادرات الصينية، بالإضافة إلى الأجهزة الإلكترونية.
مع الأخذ بالحسبان أن الصين مستفيدة من الطاقة التي تُورّدها لها روسيا، منخفضة الثمن كما أوروبا قبل الحرب.
وإجمالاً فإن الصين هي الشريك الأول لروسيا، في حين روسيا هي الشريك السادس للصين.
إن القيمة الإستراتيجية لموسكو لبكين تتعزز مع اشتداد المنافسة الجيوسياسية، وفي عالم ناشئ متعدد الأقطاب، كما يوصَف من الجانبين الروسي والصيني، فإن وجود روسيا جوهري ولا يمكن الاستغناء عنه، وفي حال أراد الرئيس الصيني مواجهة العالم الغربي فإن روسيا لا بد منها، ولا شك أن الشراكة الروسية الصينية تشكّل هاجساً للغرب، فعندما راهن الغرب على انهيار الاقتصاد الروسي في بداية الحرب الأوكرانية، ازدهر الاقتصاد الروسي، ولما حاول الغرب عزل روسيا، زادت شراكتها مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ويبقى دور الصين مهماً لروسيا، ولا يمكن للصين التخلي عن روسيا كشريك إستراتيجي في مواجهة الغرب الذي يُصرح علانية بقلقه من الصين الصاعدة، فالولايات المتحدة الأميركية تنظر إلى الصين شزراً بصفتها منافساً اقتصادياً، حتى لم تعد الصين تنظر إليه كشريك إستراتيجي، كما تفعل اليوم مع روسيا.
قي خطاب ألقاه في عيد النصر بالميدان الأحمر في التاسع من أيار 2024، اتهم بوتين الغرب بتبني سياسات تؤجج الصراعات العرقية والطائفية في جميع أنحاء العالم، وحذر من أن قوات روسيا الإستراتيجية (النووية) لن تسمح لأحد بتهديد الوطن.
يرى كل من بوتين وشي نفسيهما كمهندسين لنظام عالمي جديد لا يخضع للتدخل الأميركي، وقاما بخطوات عدة لتعزيز التحالفات المتعددة الأطراف مع عدد كبير من البلدان النامية، وفي إطار منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة «بريكس»، كثقل موازن للغرب.
كما تواصل بكين تقديم الدعم الاقتصادي الرئيسي لموسكو لتخفيف آثار العقوبات الاقتصادية الغربية، التي حدت من وصول روسيا إلى سلاسل التوريد العالمية والأسواق الدولية.
موسكو تولي أهمية كبيرة لمواصلة تطوير شراكتها الإستراتيجية مع الصين، والتي لن تتخلى عنها رغم الضغوطات الغربية، بل إن موسكو أصبحت أكثر إصراراً على «التوجه نحو الشرق».
التركيز بشكل خاص سينصب على القضايا الاقتصادية والتعاون في صناعات التكنولوجيا الفائقة، مع إعطاء اهتمام خاص لمشكلة التسويات المتبادلة في التجارة بين البلدين.
التعاون الأبرز بين البلدين سيتركز على إيجاد سبل لتجاوز القيود الأميركية، التي أدت إلى انخفاض الصادرات الصينية إلى روسيا أواسط العام 2023.
روسيا تنظر إلى الصين كحليف إستراتيجي، يتميز بالتفوق على الولايات المتحدة من الحوسبة الكمية والبيولوجيا الاصطناعية إلى التجسس، بينما تتمتع روسيا بمخزون هائل من الطاقة وبقوة عسكرية هائلة.
الصين عززت علاقاتها التجارية والعسكرية مع روسيا في السنوات الأخيرة، عندما فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات على البلدين، كما أن الصين لعبت دوراً حاسماً بمساعدة روسيا في التغلب على العقوبات.
إن زيارة بوتين إلى الصين تعطي دفعة إضافية للتعاون بين البلدين في مجالات عديدة، دون أن ننسى أهمية زيارة بوتين لجهة تعزيز دور «بريكس» وتفعيلها، لجعل الجميع يشعرون بالاطمئنان فيها، بعد أن تجاوز عدد الدول التي طلبت الانضمام الـ20.
زيارة بوتين لبكين رسالة إلى العالم يؤكد فيها أولوياته وعمق العلاقة الإستراتيجية بين بكين وموسكو أقوى خصمين جيوسياسيين للولايات المتحدة، وفي وقت تتزايد فيه المنافسة الجيوسياسية مع هذه الأخيرة.
وزير وسفير سوري سابق
المصدر: الوطن