سارعت الولايات المتحدة الأميركية لإعادة الدماء وإحياء مسار المفاوضات بهدف التوصل لاتفاق تهدئة في قطاع غزة وتبادل للأسرى، من خلال إخراج واشنطن لمبادرة الحل السياسي من غرفة "العناية المشددة" إما بهدف احتواء مستويات التصعيد على مستوى المنطقة أو كمناورة لحماية الكيان "الإسرائيلي"، أو حتى انطلاقاً من الخشية الأميركية من الانزلاق في حرب مع طهران وباقي قوى محور المقاومة في المنطقة ومن خلفهم القوى الصاعدة على المستوى الدولي، ولاسيما روسيا الاتحادية والصين الشعبية، بشكل يؤدي لتهديد المصالح والنفوذ الأميركي بالنظامين الإقليمي والدولي، وبتوقيت سياسي يتزامن مع مسارعة عقارب الساعة الانتخابية التي تشهد حالة تجاذب داخلية وتقارب للترجيحات بعد انسحاب الرئيس الأميركي "جو بايدن" لمصلحة المرشحة الديمقراطية "كاميلا هاريس" وقدرتها على تقليص فجوة استطلاعات الرأي مع مرشح الحزب الجمهوري "دونالد ترامب".
مؤشرات نجاح المباحثات السياسية لوقف إطلاق النار والتي من المزمع عقدها في الدوحة اليوم الخميس 15 آب، بالعاصمة القطرية الدوحة، هي بين كفي ميزان تشهد حالة متأرجحة، ما بين إمكانية حصول خرق من حيث التوصل لاتفاق نتيجة اعتبارات عدة لا تتعلق بالكيان "الإسرائيلي" بالقدر الذي تتعلق فيه برغبة واشنطن بحصول مثل هذا الخرق، وبين إخفاق هذه المحادثات على غرار الجولات السابقة نتيجة عدم وجود إرادة سياسية "إسرائيلية" تتمثل في سعي رئيس حكومة العدو "بنيامين نتنياهو" للذهاب نحو المزيد من التصعيد على مستوى المنطقة لضمان جر الولايات المتحدة الأميركية إلى هذا الصراع لشن عملية عسكرية كبيرة على مستوى المنطقة نيابة عنها، تستهدف من خلالها واشنطن دول محور المقاومة عموماً والجمهورية الإسلامية الإيرانية بشكل خاص.
ولكن قبل التوسع أكثر في البحث عن هذين المسارين، يفرض الواقع العديد من الأسئلة لابد من التوقف عندها أبرزها، لم عادت واشنطن لطرح هذه المبادرة في ظل حبس دول المنطقة لأنفاسها نتيجة العبث "الإسرائيلي" بقواعد الاشتباك مع حزب اللـه وإيران؟ وهل أن احتمال نجاح هذه المباحثات في التوصل لاتفاق كهذا يعني أنه لن يكون هناك انتقام ورد على جرائم هذا الكيان؟ وهل تأخر الرد الإيراني والمقاومة اللبنانية له علاقة بعقد هذه المباحثات التي طرحت منذ عشرة أيام؟
لعل الإجابة عن هذه التساؤلات الثلاثة التي باتت تشغل عقلية ومخيلة كل متابع ومختص في الشؤون الإقليمية والدولية، تقودنا نوعاً ما، لوضع تصور حول الترجيحات والمسارات التي ستفضي إليها هذه المباحثات، فبالنسبة لتأخر الرد قد يتضمن في أحد جوانبه إلى جانب إدارة الحرب النفسية وجعل الكيان في حالة استنزاف واستعداد لاحتمال توسع الصراع، جانباً آخر وهو يشكل أحد أبرز مطالب محور المقاومة منذ أشهر والمتمثل بالتوصل لوقف مستدام لإطلاق النار في قطاع غزة، ولعل ما شهده الأسبوعان الماضيان من محاولات دبلوماسية لاحتواء الرد تضمن المساعي لوقف العدوان منعاً لحرب كبرى على مستوى المنطقة، ولكن هذا لا يعني أنه لن يكون هناك رد ولاسيما من قبل حزب الله، وهنا سنكون أمام مسارين، الأول في حال تم التوصل لتفاهم سيكون هناك رد اعتباري لن يكون كبيراً من شأنه أن يكرس معالم قواعد الاشتباك القائمة، أما المسار الثاني فإنه يتجلى في حال مماطلة الكيان بعدم التوصل لاتفاق أو إخفاق المباحثات، فإن ذلك سيدفع إيران أو حزب اللـه لرد مباشر وكبير ومؤثر، على الرغم من وجود الحشد الأميركي والغربي في المنطقة، وهذا يقودنا للإجابة عن السؤال الأول والذي يدفعنا لعصف فكري حول مسارعة واشنطن لنشر قواتها في المنطقة بالتزامن مع حراكها الدبلوماسي على مستوى هذه الخريطة الإقليمية، إذ هناك تخوف لدى الإدارة الأميركية الحالية من أن أي رد لمحور المقاومة على الكيان، من شأنه أن يمنح "نتنياهو" فرصة لرد مضاد أو الذهاب نحو عملية استباقية من شأنها أن توسع دائرة الصراع في الشرق الأوسط، هذا الصراع الذي تتجنبه واشنطن لعدة اعتبارات داخلية وخارجية، لعل أبرزها عدم السماح لنتنياهو بأخذ المنطقة نحو حرب شاملة تمهد لخسارة الديمقراطيين في الانتخابات القادمة لمصلحة عودة "ترامب" للسلطة من جانب، وكذلك الخشية التي باتت تقلق واشنطن من استغلال موسكو وبكين لأي تصعيد في المنطقة لدعم خصوم واشنطن من جانب آخر لاعتبارات جيوإستراتيجية.
هذه الأجوبة تمهد لوضع التصورين أو المقاربتين حول مسارات ونتائج اجتماع الدوحة، فمن ناحية، نعم قد تشهد هذه الجولة خرقاً نوعاً ما فيما يتعلق بالتوصل لاتفاق تهدئة، وإن كانت مؤشراته قليلة نتيجة عدم ضمان سلوك الحكومة "الإسرائيلية"، ويمكن البناء على هذه المقاربة من خلال عدة نقاط:
– يمكن لـ "نتنياهو" تفادي حالة الإحراج وزيادة الضغوط التي قد يتعرض لها نتيجة حصول أي رد من قبل محور المقاومة، في ظل الضغوط الأميركية على هذا الكيان لعدم توسيع دائرة الصراع وإن كل التحشيد العسكري هو فقط لمنع تعرض الكيان لأي هزيمة إستراتيجية من ناحية، وتآكل المقدرات والإمكانات الردعية للمؤسسة العسكرية "الإسرائيلية" من ناحية أخرى.
– يمكن لنتنياهو أيضاً تفادي انهيار حكومته بعد تهديد كل من شركائه في الائتلاف الحكومي من اليمين المتطرف، ولاسيما "إيتمار بن غفير" و"بتسلإيل سموتريتش"، بإسقاط الحكومة في حال التوصل لأي اتفاق، يتخلله تبادل للأسرى بشكل يخفف الضغوط الداخلية، لكون الكنيست هو في عطلة صيفية مطولة لنهاية تشرين الثاني القادم.
– الضغوط الأميركية والأوروبية على الكيان للذهاب نحو صفقة تهدئة، وخاصة من قبل واشنطن التي تسعى إدارتها إلى ضمان فوز المرشحة الديمقراطية هارس بالانتخابات الرئاسية من خلال تدعيم موقفها عبر توصل هذه الإدارة لاتفاق تتجاوز تداعياته الخريطة الفلسطينية، والذي قد يصل لحد ضخ الدماء للاتفاق النووي الإيراني والتوصل لتفاهمات حول انسحاب أميركي من سورية والعراق، بما يسهم في استقطاب الصوت الانتخابي العربي والإسلامي والأقليات الأخرى وحرمان الجمهوريين منه.
إلا أن هذه النقاط قد لا تشكل أرضية كافية لإنجاز اتفاق ينهي العدوان على قطاع غزة، ولاسيما في ظل توافر نقاط متناقضة للنقاط السابقة والتي تشكّل جميعها لغماَ أمام مسار إنجاح المحادثات، والتي تتجلى أبرز دلالتها في:
– استمرار "نتنياهو" بتبني سياسة المراوغة والمناورة من خلال فرض المزيد من الشروط لوقف العدوان على قطاع غزة، أبرزها مطالبته المقاومة الفلسطينية بالكشف عن أسماء الأسرى الـ 33 التي ستحررهم في المرحلة الأولى، والضغط لزيادة هذا العدد ضمن هذه المرحلة، ورفض نتنياهو إطلاق الشخصيات والقيادات الفلسطينية التي تطالب بهم المقاومة، وفي مقدمتهم عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" مروان البرغوثي، وأمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات وغيرهم.
– الرهان والسعي "الإسرائيلي" لكسب المزيد من الوقت لاستكمال التحشيد العسكري "الإسرائيلي" والأميركي للتصدي لأي رد من قبل محور المقاومة، والعمل على تحميل المقاومة مسؤولية إخفاق هذه المباحثات، ولاسيما في ظل التسريبات التي تضمنت مطالب الفصائل الفلسطينية المقاومة بعدم عقد جولة جديدة من المباحثات من نقطة الصفر، بل الاستناد لما تضمنته مبادرة الرئيس "بايدن"، وإصرار قيادة المقاومة على أن يكون وقف إطلاق النار في المرحلة الأولى وليس التفاوض عليها في خلال هذه المرحلة.
– طبيعة الاتفاق المتوقع الذي توصل إليه "نتنياهو" مع ترامب لجر واشنطن لتصعيد إقليمي ينعكس بشكل سلبي على وضعية المرشحة الديمقراطية وتخدم المرشح الجمهوري المفضل لدى نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف.
عناصر المشهد الإقليمية معقدة لدرجة تحتاج الكثير من الدقة في التحليل والتقدير بقدر ما هي بحاجة أكثر لدقة من حيث إدارة الأمور واتخاذ القرار، فما يفصل بين التصعيد الخطير والتهدئة الدائمة مجرد شعرة أرفع من شعرة معاوية.
كاتب سوري
المصدر: الوطن