الإضراب الذي تم الإعلان عنه والدعوة إليه من رئيس اتحاد النقابات العمالية في الكيان "الهستدروت" آرنون بار ديفيد، كرد فعل على نبأ مقتل الأسرى، سبقه شكل غير مألوف من المظاهرات يوازي حجم الصدمة التي تلقاها الشارع "الإسرائيلي"، على اعتبار أن هذا العدد من الأسرى القتلى هو الأكبر منذ بداية الحرب ويأتي بعد زعم جيش الاحتلال تمكنه من القضاء على لواء رفح وتفكيكه قوات القسام بشكل كبير واقترابه من القضاء على السنوار واستعادة الأسرى، لتذهب كل هذه المزاعم والوعود أدراج الرياح ويبقى الخوف على مصير من تبقى منهم على قيد الحياة هو ما يحرك الشارع، والخوف هنا ليس من حركة "حماس" التي أكدت مراراً ضرورة الحفاظ على حياة الأسرى "الإسرائيليين" لتحقيق مطالبها، بل من نتنياهو الذي بات مؤكداً للجميع أنه لا يسعى لاستعادة أي منهم بل للحفاظ على السلطة والائتلاف الحكومي من التفكك والانهيار.
المظاهرات عمت شوارع تل أبيب وبقية المدن المحتلة والمستوطنات ووصل عدد المشاركين فيها لأول مرة إلى 300 ألف مستوطن قوبلوا بالعنف الشديد والاعتقال، على حين تجلى الخوف الأكبر من الإضراب وتبعاته على الجبهة الداخلية في الكيان، خصوصاً بعد خطاب رئيس "الهستدروت" الذي أكد فيه أن صفقة الرهائن لا تتقدم لأسباب سياسية، متوعداً حكومة نتنياهو بالقول: "من الغد سيتوقف الاقتصاد بـ "إسرائيل"، وتابع قوله: "نحن نتلقى جثثا بدل صفقة تبادل لذا يجب استعادة الدولة"، داعياً جميع المستوطنين للخروج والاحتجاج، ليواجه وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش قرار النقابات العمالية بالتهديد بحرمانهم من أجورهم، وهنا يتضح حجم الصدع الذي بدأ يتعمق داخل الكيان من خلال الأهداف المتعارضة لكل من الحكومة التي يمثلها نتنياهو والشارع "الإسرائيلي" الذي يتحدث بصوت المعارضة وعائلات الأسرى وبعض وزراء الحكومة غير المتفقين مع خطط نتنياهو.
وعلى الرغم من أن الإضراب لم يستمر سوى عدة ساعات قبل أن يصدر قرار المحكمة بإنهاء يومه الأول عند الساعة الثانية والنصف ظهراً، إلا أنه كان شاملاً ومكلفاً بطريقة مربكة لحكومة نتنياهو، فجميع الإضرابات التي شهدها الكيان منذ تاريخ إنشائه قبل 70 عاماً لم تتعد كونها إضرابات ضيقة هدفها خدمي بحت، ورغم امتداد بعضها لأيام طويلة إلا أنها لم تمس الخطوط الحمراء للنظام "الإسرائيلي" بسوء ولم تتسبب بهز الكيان من الداخل ودفعه للمقايضة بين استمراره كسلطة أو انهياره كـ "دولة" كما فعل الإضراب الحالي، فهذه الساعات القليلة التي استمرت من السادسة صباحاً وحتى الثانية والنصف ظهراً شهدت توقف مطار بن غوريون عن العمل بشكل جزئي وكذلك ميناء حيفا وتوقفت خدمات الحافلات والقطار الخفيف وأعلنت البنوك تعليق عملها والأخطر من كل هذا توقف الخدمات الطبية وبقاء جرحى الجيش القادمين من 3 جبهات مشتعلة من دون رعاية من المشافي، وتهديد رئيس اتحاد نقابات العمال بالدعوة لتوسيع شكل الإضراب ومضمونه في الأيام القادمة، وتجاوزت الخسائر التقديرية لليوم الأول منه 6 مليارات شيكل وهو ما يعادل 1.643 مليار دولار أميركي بحسب ما كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" "الإسرائيلية"، ما دفع نتنياهو لتخوين المشاركين فيه والقول إن إضرابهم دعم مباشر ليحيى السنوار.
الإضراب شكّل طلقة تحذيرية لنتنياهو ومن خلفه الإدارة الأميركية الداعمة له بحدود معينة أهمها ألا يجر ضربة كارثية لحملة المرشحة الرئاسية الديمقراطية كاميلا هاريس قبل الانتخابات الرئاسية التي باتت قاب قوسين، فهاريس تعمل على تلميع وجهها أمام جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة بدعم آلة الحرب "الإسرائيلية"، وأيضاً المجتمع الأميركي بحل الأزمة في الشرق الأوسط وتحرير الأسرى ونشر السلام الذي لم ينطوِ على تقديم تنازلات، ومن هذا المنطلق كشفت صحيفة "واشنطن بوست" نقلاً عن مسؤولين أميركيين أن الإدارة الأميركية تخطط لتقديم مقترح اتفاق نهائي إلى الأطراف في الأسابيع المقبلة وتتفاوض مع القاهرة والدوحة بشأن ملامح هذا الاتفاق، إضافة إلى ذلك فإن الإضراب الشامل يأتي وسط تعقيد الصورة في الضفة الغربية التي باتت على شفا الانفجار الكامل مع تصاعد المواجهات فيها إلى مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من 20 عاماً، واستمرار حالة النزيف اليومي في قطاع غزة وانهيار الردع في الشمال، إضافة لاستغلال التخبط من الشريحة الدينية المتطرفة في الكيان وهجوم الحريديم على مكاتب التجنيد رفضاً لقرار التجنيد الإجباري، واستمرار التقارير حول تجهيز جبهات المقاومة في إيران واليمن لضربات انتقامية ضد "إسرائيل" في القادم من الأيام، وعلى وقع جميع هذه الضغوط التي تواجهها، يتم إعلان الإضراب لأول مرة، ويبقى السؤال هنا هو كم سيصمد نتنياهو قبل السقوط على أرض حلبة الصراع المستمرة منذ نحو عام؟
المصدر: الوطن