أولاً: العامل الأميركي
دائماً ما أُدافع عن فكرة أن التمادي في إظهار القيادات "الإسرائيلية"، كقيادات مستقلة عن الإرادة الأميركية ورغباتها، هو قفز على الحقيقة، بمعنى أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال تمتلك كل وسائل الضغط على "الإسرائيليين"، مهما حاول الإعلام إظهار عكسَ ذلك، لكنه جزء من الترويج لمكانة الدولة الصهيونية، من هذا المنطلق لا يبدو بأن الإدارة الأميركية الحالية أو القادمة بعد الانتخابات المزمع عقدها بعد عشرة أيام، سترى أي مصلحة حالية لانخراط الكيان في حربٍ مع إيران، وسط ما تقدمه لها من دعمٍ مطلق على الجبهات المشتعلة بما فيها إطلاق يد آلة الإجرام "الإسرائيلية" في كل من لبنان وفلسطين المحتلة.
لكي تتضح الفكرة أكثر دعونا نعد إلى أيام قليلة فقط كانت فيها الصحافة الأميركية تتحدث عن تلقي الإدارة الأميركية من الجانب "الإسرائيلي" بنكَ أهدافٍ إيرانية سيتم التعامل معها في إطار الرد "الإسرائيلي" على إيران، حتى إن الرئيس الأميركي جو بايدن تحدث عن معرفته بالأهداف المزمع مهاجمتها وتوقيت حدوث الهجوم، فرد عليه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بالقول: من يعرف هذه المعلومات فهو يتحمل المسؤولية!
كانت هذه الأهداف بسقفٍ مرتفعٍ جداً، بل نكاد نجزم أن أقلها كان محاولة اغتيال قائد الثورة الإسلامية في إيران علي الخامنئي، وبعد تسرب هذه المعلومات إلى الصحافة، قيلَ إن "الإسرائيلي" قام بتأجيل الضربة وتعديل بنك الأهداف بسبب تسرب هذه المعلومات عبر الأميركيين، لكن في الحقيقة يبدو هذا الكلام نكتة سخيفة لا أكثر، حاول "الإسرائيلي" من خلالها إظهار استقلاليته، فالضغوطات الأميركية على بنيامين نتنياهو أثمرت فعلياً تشذيب مخالب الرد ليتحول إلى الصورة الهزيلة التي ظهر بها والتي كانت أشبهَ باتفاقٍ برعاية أميركية، فكيف ذلك؟
يرى الأميركي بأن "إسرائيل" وبعكس ما يُشاع، لا تبدو وكأنها مهزومة في غزة، بل إن ما جرى سيؤسس إلى مرحلة قادمة من دون "حماس" بعد تحييد جميع القيادات الوازنة تقريباً، ولم يتبق في الحركة إلا شخصيات الصف الثاني والثالث، لدرجة أن الحركة إلى الآن تبدو عاجزة عن تسمية قائد جديد لها، حتى ملف الأسرى لم يعد يأخذ ذاك الحيز الكبير وفق ما حققه الكيان عبر سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها من قتل وتدمير وتشريد سيكون بالإمكان التحكم بمساراته في اليوم الثاني لانتهاء الحرب.
أما الوضع في لبنان وإن كان يبدو فيه نوع من الاختلاف تحديداً لجهة صلابة الموقف العسكري للمقاومة الوطنية اللبنانية، فإن ما افتقده "الإسرائيلي" في غزة موجود في لبنان، أي العامل الداخلي الذي يضغط على المقاومة بما فيه تخلي "أصدقاء الأمس" عنهم، بالإضافة للضربات الموجعة التي تلقتها المقاومة بخسارةِ خيرةِ قيادييها، هذا كله قد يدفع "الإسرائيلي" فعلياً للوصول إلى هدفهِ المعلن في الجنوب اللبناني، وهو انسحاب المقاومة إلى شمال نهر الليطاني، فلماذا الانخراط في حربٍ لامعنى لها؟
ثانياً: العامل الإقليمي
"لا تكن ملَكياً أكثر من الملك"، هذهِ العبارة يجب أن يفهمها كل من يتعاطى بتحليل العلاقة بين إيران والجوار الخليجي من دون الأخذ بالحسبان التبدلات الجوهرية التي حصلت في هذه العلاقة مع الدول العربية والتي هي الامتداد العربي لسورية والعُمق الأهم للبلد الذي أنهكته الحرب، فكيف ذلك؟
منذ العاشر من آذار من العام الماضي وهو اليوم الذي رعت فيه العاصمة الصينية بكين اتفاق المصالحة بين كل من إيران والمملكة العربية السعودية بعد قطيعة دامت لأكثر من سبع سنوات، والعلاقات السعودية الإيرانية تشهد انفتاحاً مستمراً وصلَ إلى حد إعلان إيران إلغاء التأشيرات على المواطنين السعوديين الراغبين بزيارتها، رغم أن هذه العودة لم تحمل الكثير من الأصداء عند من يحملون لقب "ملكيين أكثر من الملك" من الطرفين وفي أغلبهم للأسف ليسوا سعوديين ولا إيرانيين، إلا أن هذا الاتفاق وبلا شك أسس لمرحلةٍ جديدة كان يسعى إليها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تهدف إلى إنهاء النزاعات وفتح الأفق نحو الرخاء الاقتصادي في المنطقة، بالسياق ذاته فإن هذا الاتفاق أنهى يومها الكثير من المغالطات التي كان الإعلام "الإسرائيلي" يجترها بهدف الإيقاع بين البلدين، بما فيها ما كان يُشاع عن تشكيل "ناتو سني" لمحاربة إيران تتزعمه وتموله السعودية، والأهم من كل ذلك انتهاء فكرة الصراع "السني- الشيعي" التي كان هناك من يحاول تعويمها في أدق تفاصيل حياتنا اليومية، لدرجةِ أن المملكة نفسها باتت في حالةِ انفتاح وصلت إلى حد التدقيق في الأحاديث النبوية المغلوطة، هذه الرؤية التي أسس لها هذا الاتفاق ربما جنت المنطقة نتائجه في سياق الأحداث الجارية حالياً، فالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وعمان أدانت الهجوم على المواقع الإيرانية، مؤكدة رفض التصعيد في المنطقة وتوسع رقعة الصراع، هذه التفاصيل للأسف مازال أصحاب الرؤوس الحامية الذين يهاجمون الدول العربية بسبب وبلا سبب يتجاهلونها، بمعنى آخر: لم تعد قائمة الظروف الإقليمية لتسهيل حرب كهذه على إيران، فلماذا المغامرة؟
ثالثاً: طبيعة الهجوم تؤكد ما سبق
مما لاشك فيهِ أننا ليلَ الأمس عشنا دقائقَ قيلَ إنها تنفيذ "الإسرائيليين" لتهديداتهم بالرد على إيران، إعلامياً كنا كأننا أمام صورةٍ لخبر يتحدث عن قيام "إسرائيل" بتوجيهِ ضربات صاروخية لمواقعَ إيرانية لا يمكن وصفها حتى بالإستراتيجية، في المقابل هناك حديث إيراني عن تصدي الدفاعات الجوية لصواريخَ "إسرائيلية" فوق الأراضي الإيرانية، مع نهاية الهجوم بدأ كل طرف بدحض رواية الطرف المقابل، ففي الوقت الذي أكدت فيه وزارة الحرب "الإسرائيلية" حدوث الهجوم وتحقيق إصابات مباشرة بما سمتها "مراكز لتصنيع الصواريخ الباليستية التي قصفت تل أبيب" من دون أن تدعم روايتها بأي دليل، على طريقة كذبها بالترويج لاحتلال قرى في الجنوب اللبناني، جاء النفي الإيراني كذلك الأمر ليؤكد حدوث هجوم وينفي تمكنه من إحداث أي أضرار بالمواقع المستهدفة، لدرجةٍ بدا الأمر وكأنهُ لعبة تبادل تصريحات أكثر من كونها تبادل ردود، فكيفَ ذلك؟
في العلوم العسكرية فإن عنصر المفاجأة هو أحد أهم أسباب تحقيق الأهداف من الهجوم، هذا العنصر غابَ فعلياً عن هذه العملية فموقع "أكسيوس" الأميركي وبعض وكالات الأنباء الأوروبية كانت قد أكدت تلقي إيران رسالة من "إسرائيل" عبرَ طرفٍ ثالث هو وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن بحصول الهجوم والأهداف منعاً للتصعيد، هذه الفرضية يدعمها قيام شركات الطيران المدنية قبل أيام بتعليق الرحلات المدنية بل دعمتها صور البث المباشر للمواقع المعنية برحلات الطيران المدني التي بدت خالية من أي طيران في المنطقة الممتدة من شواطئ سورية ولبنان وفلسطين غرباً حتى الحدود الشرقية لإيران، إذن نحن أمام حالة لا تبدو بحاجة للكثير من التحليل يمكننا اختصارها بعبارةٍ بسيطة: لا أحد من الطرفين يريد الحرب، فهل انتهى مسلسل الرد والرد على الرد بين إيران و"إسرائيل"؟
من الواضح بأن "السجال الصاروخي" بين إيران و"إسرائيل" قد انتهى، هناك كلام إيراني عن تقييم للخسائر الناتجة عن الهجوم سيضعهُ في نطاق الهجوم الذي لا يهدد الأمن الإيراني، أما "الإسرائيلي" فسيروج بأن أهدافه قد تحققت من الهجوم، هذا يعني العودة الآن للصراع في ساحات الحرب المفتوحة بين الطرفين، من الأساس قلنا وكررنا إنه لا وجود لحرب إقليمية لأن لا أحد يريدها، فليس هناك طرف قادر على إزالةِ طرف، دعكم من هذه السخافات وليس هناك طرف قادر على رمي طرف آخر في البحر، لكن من الواضح أن الحقيقة مؤلمة للبعض لدرجةِ تجعله لا يفكر بسياقٍ آخر، ويا له من سياق، أحلام يقظة وشعارات عفى عنها الزمن!
كاتب سوري مقيم في فرنسا
المصدر: الوطن