تجسد العربدة الإسرائيلية التي جرت أمس محاولة استدراك مفلسة ومتأخرة لا تخفي أهدافها وأجنداتها في نجدة ما تبقى من إرهابييها ومرتزقتها، بعد أن خطت المؤشرات الميدانية حدود الاستنتاج، ورفضت الأخذ بالكثير من القراءات السياسية التي بدت أقرب إلى شدٍ عكسي أخير لمنظومة العدوان، باعتبار أن منحى التطورات في كل الاتجاهات يشي بأن المنعطف السياسي الذي أرست معالمه إنجازات الجيش العربي السوري في المنطقة الجنوبية قد أخذ يتفاعل بشكل أعاد قلب الطاولة على كل الحسابات والتحذيرات، والأهم نسف الحديث عن الخطوط الحمر بتدرجاتها المختلفة، التي غيرت من بعض ألوانها وأولوياتها التي خطّتها في مرحلة بدت حمّالة أوجه .
الفارق هنا لم يعد في الرؤية الافتراضية التي كانت تغطي المساحة الأكبر من القراءات السياسية، بل في الوقائع التي تعيد النظر في مجمل تلك الافتراضات من زاوية الإدراك بأن ما جرى قد أعاد وضع النقاط على الحروف، ما اقتضى في كثير من الأحيان أن نضع نقطة ونبدأ من أول السطر، وهو ما ينسحب على مجمل الحسابات والمعادلات وحتى الافتراضات التي كانت تتوازى مع بعضها البعض لتنتج خليطاً متنافراً يصعب فيه الفرز، والأهم أو الأخطر أنه يجعل من الصعب التفريق بين حدود التقاطع والتطابق وأحياناً بين المساحات القابلة للتأويل في الاتجاهات المتناقضة.
فإسرائيل التي كانت ترسم خطوطها الافتراضية تبعاً لتمنياتها، وجدت أن الأحداث تبدل من اتجاهها وتعاكس العدوانية الإسرائيلية، ولتجد نفسها أمام الحقيقة الصعبة التي لا يمكن معها أن تتجاهل ما يجري، ولا تستطيع أن تملي ما كانت تفترضه، فيما الولايات المتحدة الأميركية التي أدارت سنوات الخراب والدمار في المنطقة تعيد إيصال رسائلها السياسية تبعاً لمتغيرات وإحداثيات التطورات، وليس للافتراضات التي كانت تعتاش على مقولات رائجة أثبتت التجربة أنها لا تصلح لكل زمان ومكان، ومن الصعوبة بمكان أخذها على محمل الجد بشكل دائم.
على ضفة الأدوات الأميركية في المنطقة كانت الحسابات تتأرجح في فهم المغزى السياسي من التبدلات الأميركية، التي كانت في أغلب الأحيان تصبح على غير ما تمسي، ورغم تكرار التجربة لم تكن أي من تلك الأدوات على استعداد لسماع ما يتعدى حدود تمنياتها، وكان التعويل على التنظيمات الإرهابية جزءاً من الرهان على الأميركي، باعتبار أن التطابق في المصالح يقتضي في حينه الاستمرار في الاستثمار بالإرهاب، وبدت أنها سارية المفعول من دون أي استثناءات، وهذا الأمر يكاد يتطابق مع الحقيقة إلا بمتغير واحد أن أميركا لا يمكن لها أن تستثمر في رهان خاسر، ولا تتردد حين تتيقن من ذلك لتدير ظهرها، وهو ما ينطبق على الحال الإرهابي ككل كما ينطبق على الأدوات والمشغلين.. القريبين منها أو الأقل قرباً، وحتى من ابتعد في لحظة سياسية أراد استثمارها للتلاعب على حبال المواقف السياسية.
فالمعركة في الجنوب لم تكتفِ بكشف الحقائق فحسب، بل يبدو أنها مرشحة لكشف الأحجام والأوزان السياسية وغير السياسية، وقد وضعت جميع الأدوات الأميركية على المحك، ولم تكن إسرائيل بعيدة عن ذلك الاختبار، بحكم ما تمارسه من عدوانية بدت حاضرة في لحظة إفلاس واضحة، بدليل هذا التوجس الواضح من غموض تداعيات المشهد وما يحمله، حيث لا تكاد تطمئن باتجاه حتى تتدفق المخاوف والهواجس من جملة اتجاهات، وأحياناً دفعة واحدة، فيما تتقاذف البقية الباقية من الأدوات والمشغلين ما يفيض عن القدرة على التحمل، وإن كان هذا كله لا يعني ثباتاً في الرجحان الأميركي ولا النوسان غرباً وشرقاً.. تصعيداً وتهدئة، تسخيناً وتبريداً وفق الحاجة الأميركية التي ترسم قواعدها لعبة الصفقات ومساحة التجيير فيها، ومساحة اللعب الإسرائيلي على هوامشها وضمن ما ترسمه بالتوافق مع الأميركي وأدواته.
العربدة الإسرائيلية تعجل في كتابة نهاية السطر من التطورات المتسارعة في جبهة الجنوب، وما ينتظره غيرها من جبهات في الشمال وربما بعده أو بجواره، والتحضير لفصل جديد من العربدة والعدوان يبقى سلوكاً إسرائيلياً صرفاً يغذي إلى حد بعيد تمنيات مشغلي الإرهاب وسياقاته الجديدة، وهي في نهاية المطاف محاولة محمومة لملامسة حدود المربع الأول الذي بات أبعد من أي وقت مضى، حيث العدوانية الإسرائيلية فعل متأصل في سياق الفعل اليومي، وإن كانت تشكل موجة إضافية من إرهاصات العجز المزمن في تبديل إحداثيات المواجهة، أو تغيير قواعد اشتباك خطّتها وتخطها إنجازات ميدانية تبدو سابقة لأي قرارات سياسية.
علي قاسم / صحيفة الثورة