لم يكن مشهد الهجوم الذي شنه الرئيس الأميركي على موقف ألمانيا خلال قمة الناتو مستبعداً، لكنه في الوقت ذاته لم يكن لأحد أن يتخيل أنه سيكون بهذه المبازرة السياسية الرخيصة على حد وصف المصادر الألمانية، حيث بدت المقاربة صادمة في المعايير السياسية، كما هي في المعايير الاقتصادية والعسكرية، حيث ألمانيا في موقف لا تحسد عليه، باعتبارها وجدت من حيث تعلم أو لا تعلم أنها بين مطرقة الحاجة لروسيا وسندان الموقف الضاغط وغير المقبول من الرئيس ترامب.
والمعضلة أن الانتقادات لا تنحصر على الموقف الألماني وإن كان حاضراً في الواجهة على خلفية التوتر في العلاقة المباشرة مع المستشارة الألمانية ميركل، بل ينسحب على العلاقة الأميركية بالناتو ككل، وعلى خلفية ضعف الاعتمادات المخصصة في الموازنات الأوروبية عموماً للإنفاق العسكري الذي يجد فيه ترامب نقطة لا يمكن التغاضي عنها، وفي الوقت ذاته يرى الأوروبيون أنه لا يصح تحميلهم ما يفوق طاقتهم باعتبار ذلك طريق لسباق تسلح سبق لهم أن خسروا فيه، ولهم في تجربة الحرب الباردة دروس وعبر حين دفعت فيها أوروبا أثماناً باهظة نتيجة التجاذبات الحادة التي أحدثتها.
المقاربة اليوم تختلف ليس في الطريقة الترامبية التي تثير ما يضفي عليها حالة من النفور فحسب، بل في التوقيت الذي يسبق قمة ترامب بوتين، حيث تضيف جملة من الهواجس الأوروبية وبعضها حضر بقوة في قمة الناتو، وأساسها الهلع من أن تكون مقدمة لتفاهم روسي أميركي تكون فيه أوروبا أول الخاسرين، ولا سيما بعد أن سادت أجواء تشي بأن هذا التفاهم أقرب مما يعتقد الكثيرون، في ظل حديث متنامٍ عن فرص مشجعة وواعدة لإحداث اختراق في العلاقة الروسية الأميركية، تكون أوروبا فيها بالحد الأدنى خارج التداول لجهة الدور، وتحديداً ما يتعلق بالقضايا الخلافية بأبعادها الإقليمية، وخصوصاً محاربة الإرهاب والمقاربات المتصلة به والتباينات الحادة حولها، وما قد ينتج عن القمة الروسية الأميركية من بلورة رؤى تزيد من العزلة الأوروبية أو أن تكون على حساب أوروبا.
في العرف الأميركي لم يعد مفهوم الصفقة مجرد خيار أو احتمال، بل أصبح في صلب السياسة الأميركية تجاه مختلف القضايا، والأوروبيون أكثر من جرب ذلك على مدى الأشهر الماضية، ليبقى رهانهم على الدور الروسي محورياً فيما يتعلق بالثوابت والمحددات التي لا ترى في مفهوم الصفقة أي مساحة في السياسة الروسية، لكن ذلك لا يعني بأي حال نسيان مشهد التراكض الأوروبي لإرضاء أميركا، والتشدد إلى حدود التطرف.. والمغالاة إلى حدود القطيعة في المواقف تجاه روسيا، وفي أحيان كثيرة كانت تسبق الموقف الأميركي ذاته في إبداء العداء لروسيا، من دون أن تحسب خط الرجعة.
أوروبا في المصيدة التي نصبها ترامب يوماً بأيدي الأوروبيين أنفسهم ومساهمتهم ورعايتهم، وذهبت إليها برجليها طواعية، والخشية من تدحرج المواقف داخل الناتو لتلقي بظلالها على العلاقة مع الأميركيين، مقابل الدخول في مجابهات ليس أقلها المتعلقة بالرسوم والحرب التجارية التي تطل برأسها، مضافاً إليها الموقف من الاتفاق النووي الذي يبدو برأي الأميركيين رسالة تحد لا يمكن أن تمر من دون عواقب في ظل إدارة لا تجد غضاضة في التكشير عن أنيابها حتى مع أقرب حلفائها، ولا تتردد في المطالبة بقبض الثمن المادي قبل السياسي، وفي الحالين تجد أوروبا أنها محشورة في زاوية الخيارات الصعبة، حالها في ذلك حال الناتو التي تعصف فيه الخلافات باعتراف أمينه العام.
الهواجس والمخاوف والهلع الأوروبي له ما يبرره، وكرة الثلج التي أنتجتها انتقادات ترامب تتدحرج وتُراكم الخلافات والمصاعب والتحديات وتستمد مشروعيتها في جزء كبير منها لسوء التصرف الأوروبي، ومحدودية الرؤية السياسية لكثير من قادته، ولافتقاد أغلب أولئك القادة للكفاءة السياسية التي تؤهلهم ليكونوا المنقذ، في زمن يبدو أن أوروبا تحتاج لوقت طويل كي تستعيد حضورهم الفاعل سياسياً، وحتى ذلك الحين تنتظر أوروبا المعجزة السياسية التي تجنبها الغرق في ورطتها، وتخفف من حدة لسان ترامب اللاذعة والبقية الباقية من طاقمه الذي سبق لبعضه أن روّج لعجزها وأشار إلى شيخوختها بطريقة فظة لا تقل عن فظاظة ترامب ذاته.
بقلم:
علي قاسم / صحيفة الثورة