تحرير
البوكمال يشكّل منعطفاً ميدانيّاً فائق الأهميّة. انتزاع المدينة الاستراتيجيّة يأتي بمثابة مسمار أمانٍ في ما يخصّ ملفّ الحدود، ومسمارٍ أخيرٍ في نعش «خلافة داعش». هذا الانتصار خطف الضوء من معركة الرقّة وجعل كتابة السطور الأخيرة من أسطورة «داعش» امتيازاً لـ«محور دمشق»، ووضع في الوقت نفسه تحالف «قسد» أمام اختبار وجوديّ.
تستحقّ معركة
البوكمال الانضمام إلى قائمة العلامات العسكريّة الفارقة في مسار الحرب السوريّة، إلى جانب القصير وكويرس وحلب وسواها. وكما مهّدت كلّ من المعارك المذكورة لمشهد سوري جديد، تبدو
البوكمال مؤهّلة للعب دور مماثل عبر تعزيز أوراق القوّة في قبضة معسكر دمشق وحلفائها في ال
ميدان كما فوق طاولات التّفاوض. وإذا كانت ترجمة معركة أحياء حلب الشرقيّة في المشهد السياسي قد استغرقت وقتاً لتظهيرها بشكل مقروء، فإن الحال تبدو مختلفةً في شأن معركة
البوكمال التي استُتبعت سريعاً بقمّة بوتين ــ الأسد تمهيداً للقاء سوتشي الثلاثي المرتقب (روسيا وإيران وتركيّا).
الانتصار العسكريّ الذي حقّقه الجيش وحلفاؤه في المدينة الاستراتيجيّة منحَ دول «محور دمشق» الفرصةَ لكتابة السّطور الأخيرة من عمر «داعش» بوصفه قوّة عسكريّة فاعلة في الجغرافيا السوريّة، مع ما ينطوي عليه هذا الإنجاز من رمزيّة فائقة الأهميّة. وكانت واشنطن قد طمحت إلى قطف هذه الثمرة ودرست سيناريوات عدّة لهذه الغاية، غير أنّ الكفّة مالت في النهاية عكسَ مساعي اللاعب الأميركي. الطريق إلى
البوكمال لم يكن مفروشاً بالورود بطبيعة الحال، وتطلّب قطعُه، علاوةً على المعارك العنيفة، تقديم تنازلاتٍ في ما يتعلّق بالآبار النفطيّة التي خضعت في النتيجة لسيطرة «قوّات سوريا الديموقراطيّة» الذّراع البرية لـ«التحالف الدولي». ومع اعترافها بالأهميّة الاستثنائيّة لهذه السيطرة، تقلّل مصادر سوريّة رفيعةٌ من تبِعاتها المُتوقّعة. وتوضح المصادر لـ«الأخبار» أنّ «الخطط العسكريّة على امتداد الحرب كانت تلحظُ دائماً التمييز بين خسائر يمكن تعويضُها متى دقّت الساعة المناسبة، وأخرى تُشكّل مخاطر استراتيجيّة كبرى، ما يجعل وقوعَها خطّاً أحمر».
ويبدو جليّاً من كلام المصادر أنّ خطط دمشق وحلفاءها تلحظ سيناريوات مستقبليّة عدّة في ما يتعلّق بمناطق شرق الفرات الخاضعة حاليّاً لسيطرة «قسد» تبعاً لما تستوجبه كلّ مرحلة من المراحل القادمة. ومن المرجّح أن السيناريوات العسكريّة تأتي في ذيل القائمة، من دون أن يعني ذلك انعدام فرص حدوثها بشكل كليّ. وكانت تفاهمات موسكو وواشنطن قد أفلحت غيرَ مرّة في احتواء التأزّم العسكري بين
الجيش السوري و«قسد»، غير أن التلويح بالخيارات العسكريّة عند الضرورة استمرّ حاضراً في تصريحات مسؤولي «محور دمشق». ورغم أن «داعش» لا يزال يسيطر على نقاط ومواقع في ريف دير الزور، غير أن هذه السيطرة لا تتمتّع بثقلٍ استراتيجيّ مركزي وتبدو أشبه ببقعٍ آيلةٍ إلى الزوال، ولا سيّما إذا ما أفلح الجيش قريباً في وصل مناطق سيطرته جنوب الميادين بنظيرتها شمال البوكمال، ضارباً طوقاً على عناصر «داعش» غرب الفرات، وصولاً إلى جنوب السّخنة، في تكرار لسيناريوات مماثلة سبق أن شهدتها معارك أرياف حلب وحمص وحماة ضد التنظيم المتطرّف. ويخوض من تبقّى من مقاتلي «داعش» معركةً محسومة النتائج سلفاً، وبات اهتمام معظمهم منصبّاً على إيجاد فُرص لخروج آمن، سواء عبر اتفاقات سرّية يبرمها المقاتلون المحليّون وتضمن نقل بندقيّتهم إلى كتف أخرى، أو عبر محاولات الذوبان في صفوف المدنيين النازحين من مناطق القتال. فيما ينقسم من تبقّى من «المهاجرين» (غير السوريين) إلى قسمين: يصرّ الأوّل على خوض المعارك حتى النهاية، ويسعى الثاني إلى انتهاز أي فرصة سانحة للحاق بركب «الترانسفير الجهادي».
وعلاوةً على ما يعنيه «أفول شمس الخلافة» من خروج «داعش» من المعادلات الميدانيّة التقليديّة، ثمّة تفصيلٌ مهمّ مفادُه أنّ زوال «داعش» عن خرائط السيطرة يعني في الوقت نفسه بلوغ مغامرة «قسد» الميدانيّة أقصى مدى يمكن أن تصله، ما لم تقرّر مهاجمة مناطق سيطرة
الجيش السوري في مسعى لتوسيع رقعة سيطرتها وهو احتمالٌ شبهُ مستحيل. وتدرك «قسد» جيداً أن الإقدام على خطوة من هذا النوع سيكون بمثابة مسمار أخير في نعش تفاهمات موسكو وواشنطن، وضوء أخضر لـ«تحالف ضرورةٍ» عسكريّ بين أنقرة ودمشق. ويمكن القول إنّ معركة الرقّة كانت آخر معارك «قسد» الهجوميّة، نظراً إلى الملابسات الكثيرة التي أحاطت بسيطرتها على مناطق شرق الفرات في ريف دير الزور. ولن يكون متاحاً لـ«قسد» فتح معارك هجوميّة جديدة لتوسيع رقعة سيطرتها الجغرافيّة، باستثناء ما قد يتم تحصيله عبر تصفية جيوب «داعش» المتبقيّة شرق الفرات. وسيكون على «قسد» مراقبةُ ما سنُفضي إليه قمّة سوتشي الثلاثيّة بقلق كبير، ولا سيّما أنّ الأخيرة استُبقت بلقاء ثلاثي مهمّ بين رؤساء أركان روسيا وإيران وتركيّا. في الوقت نفسه، وبحذرٍ إضافي، ينبغي على «قسد» العمل على تحصين تحالفاتها المحليّة، ولا سيّما في ظلّ تزايد احتمالات حدوث انشقاقات بنيويّة تُسفر عن لحاق بعض المكوّنات العشائريّة بركب دمشق. وعلمت «الأخبار» أنّ الخيار المذكور محلّ بحث جدّي في صفوف بعض مكوّنات «قسد» العربيّة، وبالتوازي مع مساعٍ استخباريّة تركيّة لإحداث اختراقات مؤثّرة في صفوف المكوّن التركماني في «قسد».
* صهيب عنجريني - الاخبار