أطلق ترامب عاصفته المجنونة الموعودة وذلك بفرض حزمة ثانية من العقوبات على الجمهورية الاسلامية إيران الإسلامية اعتباراً من الخامس من تشرين الثاني الحالي.
إيران كانت دائماً - في رأيه - خصماً مؤذياً،
ترامب قرر ترقيتها إلى مرتبة العدو الأول، خطرها ليس نابعاً من كونها قوة نووية، بل من كونها ذات قدرات متنوعة ومتعاظمة وأنها مقتدرة وقادرة على تحجيم نفوذ أميركا وإجلائه من البرزخ الممتد من سواحل المتوسط إلى ضفاف الخليج.
لم يكن الاتفاق النووي سبباً للعداوة، بل ذريعة لتعظيمها ثمة تحريض «إسرائيلي» متوقد، وكذلك خليجي، لكنهما ليسا الدافع الأول لترقية
إيران إلى مرتبة العدو الأول، الدافع الأول اقتناع
ترامب والمنظومة السياسية والعسكرية الحاكمة بأن الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ جورج بوش الأب إلى باراك أوباما، أخفقت في حربها الناعمة على
إيران وقوى المقاومة، لعل المظهر الأخير للإخفاق اندحار الإرهاب المتمثل بـ «الدولة الإسلامية في العراق والشام -داعش».
وسواء أكان تنظيم «داعش» صناعة أميركية، أم مجرد فعل على تغول الولايات المتحدة وبعض دول الغرب الأطلسي و»إسرائيل» في استباحة بلاد العرب والمسلمين، فإن ثمة حقيقة ساطعة لا سبيل إلى إنكارها هي أن أميركا وبعضاً من حلفائها الإقليميين استعملوا «داعش» وأخواته من أجل ترسيم خريطة جيو -سياسية جديدة لبلدان غرب آسيا ولمواجهة قوى المقاومة البازغة فيها.
استراتجية الرئيس الأميركي دونالد
ترامب تجاه إيران، لا تمثل في خطوطها العريضة تناقضاً مع سياسات واشنطن المتبعة حيال المنطقة والعالم، لكن اللافت في هذه الاستراتيجية أنها وضعت جملة من الأهداف العميقة، السعي إلى تحقيقها يضع المنطقة والعالم على مفترق طرق خطير، ويشكل تهديداً للأمن والسلم العالميين.
صحيح أن استراتيجية
ترامب تستهدف
إيران وتضعها في «فوهة المدفع» الأميركي في محاولة لمنعها من مواصلة امتلاك القدرات وعناصر القوة، لكنها في الوقت ذاته تستهدف فرض الهيمنة على عموم المنطقة، وهي محاولة لتطويع الساحة الدولية على غرار ما كانت عليه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولذلك فإن القوى الدولية الأساسية لاسيما روسيا والصين، وحتى تلك الحليفة لواشنطن مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ترى في إعلان»النفير» الأميركي ضد إيران، تقويضاً لعوامل الاستقرار، ومقدمة لخطوات مماثلة تستهدف دولاً عديدة في المنطقة والعالم، خصوصاً أن واشنطن تصعد على أكثر من اتجاه، والتصعيد الأخطر هو ضد روسيا والصين ويتمثل بنشر منظومة الصواريخ «ثاد» الأميركية في كوريا الجنوبية واليابان.
لقد عكست ردود الفعل الدولية على إستراتيجية ترامب، تحذيراً من مغبة الدخول في مواجهات غير محسوبة النتائج، وإذا كانت المواجهة مستبعدة راهناً بين أميركا وقوى دولية أساسية، فإنها إن حصلت مع
إيران فلن تكون نزهة على الإطلاق، لأن لدى
إيران استراتيجية للمواجهة، وضعت قيد الاختبار ونجحت في أكثر من محطة، بينما إستراتيجية
ترامب تتبنى الموقف «الإسرائيلي» الذي يدعو إلى مواجهة إيران، ولا تأخذ في الاعتبار الهزيمة التي لحقت بـ»إسرائيل» في لبنان على يد المقاومة التي تدعمها سورية وإيران.
أبرز نقاط الخلل في الاستراتيجية الأميركية تجاه
إيران أنها أعلنت رزمة من الإجراءات ضد
إيران من دون اعتبار لموقف الدول التي هي جزء من الاتفاق النووي، وأبرز من واجه هذه الاستراتيجية الأميركية هم أقرب حلفاء أميركا الدوليين، بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
من الواضح أن موقف
ترامب وضع أميركا في مواجهة مع معظم دول العالم، وفي المقدمة حلفائها الأقرب لها، وقد ظهر أن الهوة بين الاتحاد الأوروبي وأميركا تتسع وأن استمرار السياسة الأميركية في هذا المنحى سوف يؤدي إلى طلاق في هذه العلاقة ,وهو أمر يقود إلى عزلة أميركا، واحتمال انفراط عقد ذالك التحالف التاريخي بين أميركا وأوروبا التي أصبحت مصالحها مهددة نتيجة السياسات الأميركية، لاسيما أن الاتفاق النووي رتب التزامات وعقوداً وصفقات اقتصادية وتجارية بين الدول الأوروبية و
إيران وبوشر في تنفيذها، في حين أن نهج العقوبات الأميركية ضد روسيا يلحق الضرر بمصالح الكثير من الدول الأوروبية، لاسيما أنه لم يعد هناك من مبرر لها بعد أن أصبحت روسيا دولة رأسمالية وليست اشتراكية.
هذا التطور السلبي الذي يعمق الهوة في العلاقات الأميركية الأوروبية يحصل لأول مرة، ما يؤكد أن السياسة الأميركية التي تمر بمرحلة من انعدام الوزن والتخبط نتيجة محاولات أميركا عدم التسليم بالمعادلات الدولية الجديدة المتعارض مع منطق الهيمنة الأميركية هي السبب في تراصف العالم في مواجهة إدارة
ترامب إزاء الموقف من الاتفاق النووي، وجعل أميركا في حالة من العزلة العالمية لأول مرة في تاريخها، بعدما كانت للأمس القريب دولة تهيمن على العالم يهابها الجميع ويسير وراءها معظم دول العالم، أما اليوم باتت غير قادرة على إلزام أحد بقرارها.
من دون شك أن هذه السياسة الأميركية تؤدي كما هو واضح إلى إضعاف مكانة أميركا الدولية وتعزيز حالة الانقسام والشرخ داخل أميركا وحتى في صفوف الحزب الجمهوري، ما دفع الكثير من المحللين إلى الحديث عن عودة قوية للمطالبة بعزل الرئيس
ترامب من منصبه باعتبار سياساته تلحق الضرر الفادح بالمصالح الأميركية.
انطلاقاً مما تقدم، يمكن القول إن موقف
ترامب واستمراره قاد وسيقود أميركا إلى العزلة الدولية والتعجيل بوضع حد لنظام القطب الواحد وقيام نظام دولي تعددي يضع حداً لحالة الفوضى العالمية التي تسببت بها سياسات الهيمنة والتسلط والبلطجة الأميركية التي سادت في العقدين الأخيرين إثر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق واختلال التوازن الدولي واستغلال الولايات المتحدة ذلك لفرض هيمنتها على العالم.