وتركزت الأبحاث المقدمة من قبل باحثين عرب على نشأة هذا المسرح بين الازدهار والانحصار، والتجارب الأوبرالية العربية للرواد، واستعراض التجارب الغنية بالدول العربية من مسرح أبي خليل القباني والمسرح الغنائي في لبنان وبلاد الشام ومصر.
وفي بحثها الذي حمل عنوان “المسرح الغنائي في بلاد الشام ومصر.. القباني والرحابنة”، استعرضت المسؤولة الإدارية في معهد صلحي الوادي للموسيقا عبير الجابي الخلفية التاريخية التي أسست لنشوء المسرح الغنائي في سورية، وما كان يقدم في مقاهي دمشق من قصص شعبية يؤديها الحكواتي، بالإضافة إلى عروض مسرح خيال الظل التراثي “كركوز وعيواظ”، وما يرافق العروض من رقص السماح.
وبينت الجابي في تصريح لمراسلة سانا أنها تناولت في بحثها مسرح أبي خليل القباني 1833-1903 في بلاد الشام ومصر، والذي يعد رائد المسرح الغنائي العربي، وما امتلك من بصمة إبداعية، فهو كاتب وملحن وشاعر ومسرحي، مستعرضة ما تعرض له من رفض بيئته الاجتماعية، وتجربة سفره إلى مصر عام 1884، مصطحباً أفراد فرقته إليها، حيث بدأت المسرحيات تأخذ شكلاً جديداً وقدمها على مسرح زيزينيا وقهوة الدانوب، وكانت مسرحياته مستوحاة من التاريخ العربي الإسلامي وحكايات ألف ليلة وليلة، وتميزت بالرقص الإيقاعي، وتناوب على الغناء بين فصولها المطرب عبده الحامولي والمطربة الشهيرة “ألمظ”.
وأوضحت الجابي أنه منذ قدم القباني مسرحية “أنس الجليس عام 1884” ، ذاع صيته أكثر، وتتلمذ على يده الكثير من رواد المسرح، ليستمر نشاطه وفرقته في مصر 17 عاماً، وبعدها قام بعض الحاقدين بحرق مسرحه الذي أقامه في العتبة الخضراء عام 1901، فقرر اعتزال المسرح.
وبينت الجابي أنه بعد 50 عاماً من رحيل القباني، بدأت تتبلور في بلاد الشام ملامح تجربة جديدة بالغة الأهمية في المسرح الغنائي، حمل لواءها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني والسيدة فيروز، ومع أن سورية ولبنان كانتا قد أصبحتا بلدين مستقلين إلا أن التجربة الرحبانية بقيت تنتمي إلى بلاد الشام رغم ظهورها في لبنان، وذلك بحكم الدور الذي أدته إذاعة دمشق في إطلاق التجربة الرحبانية، والأهم من ذلك دور المهرجان الفني في معرض دمشق الدولي بانتشار مسرح الرحابنة الغنائي.
وأشارت الجابي إلى أن الدارسين للمسرح الرحباني اليوم يلمسون عن كثب أنه بنيت دعائمه الدرامية الموضوعية على دعامتين أساسيتين، هما “القرية والمدينة”، وهناك عملان مستوحيان من التاريخ “أيام فخر الدين، وبترا”، إلى جانب مسرحية ذات طابع ملحمي “جبال الصوان” ولا ننسى الأعمال المتأخرة أثناء الحرب اللبنانية، مثل “المؤامرة مستمرة والربيع السابع”.
وقدمت الجابي موجزاً لرحلة الأخوين الرحباني وفيروز في مجال المسرح الغنائي، حيث أشارت إلى أن من الأعمال التي تصور أجواء القرية بمناخها وشخوصها وتقاليدها وأعراسها مجموعة “عادات وتقاليد” و”موسم العز” و”بياع الخواتم” و”دواليب الهوا”.
وأكدت أن التحول الجذري الذي حصل في المسرح الرحباني كان من خلال الانتقال من معالجة شؤون الريف إلى معالجة أحوال المدينة في المطلق، والمسرحيات التي تدور في مناخ المدينة ومشاكلها وهموم قاطنيها، مع إطلالات على شؤون الحكم والحكام وعلاقتهم بالفئات الشعبية هي “هالة والملك” و”الشخص” و”صح النوم” و”يعيش يعيش” و”ناطورة المفاتيح” و”المفاتيح” و”المحطة” و”لولو”.
وأوضحت الجابي أن علاقة الرحابنة وفيروز مع سورية لا مثيل لها، ولا تقف عند حدود إذاعة دمشق التي انطلقوا منها، وإنما تشمل معرضها الدولي، حيث صدح صوت فيروز في أرجائه طيلة أمسياته ولياليه والمهرجان الفني المرافق له ذي الشهرة العربية والعالمية، حيث كان أحباء الشام على موعد أواخر الصيف مع مسرحيات مفعمة سحراً وجمالاً وفكراً إنسانياً، لافتة إلى أن دورة عام 1959 شهدت أولى مشاركة للسيدة فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية في المهرجان الفني لمعرض دمشق الدولي، وما لبثت أن أصبحت هذه المشاركة محور المهرجان.
وبينت الجابي أن جمهور مهرجان دمشق الدولي تابع بشوق روائع المسرح الرحباني، وهي البعلبكية وجسر القمر والليل والقنديل وبياع الخواتم وهالة والملك وجبال الصوان وصح النوم وناطورة المفاتيح والمحطة ولولو وميس الريم وبترا، موضحة أن المدقق لتواريخ عرض هذه المسرحيات الرحبانية في دمشق سيلاحظ أنها عرضت في السنة ذاتها التي عرضت فيها للمرة الأولى في مهرجان بعلبك الذي أسس عام 1956، وكانت السنة التالية منه الانطلاقة الأساسية للمسرح الرحباني، ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف مشاركاتهم في مهرجانات بعلبك، وبدأ يتبلور الشكل النهائي لمسرحهم الغنائي بما فيه من شعر وموسيقا واستعراضات راقصة وأغنيات حملها الصوت الفيروزي إلى أقاصي العالم.
وختمت الجابي بالإشارة إلى أن تأثير الزمن الرحباني على المسرح الغنائي العربي طال القسم الأكبر من التجارب الغنائية المهمة في تلك الحقبة على مستوى الكلمة واللحن والصوت والأداء، وأنتجت أسماء كبيرة في عالم الغناء العربي، منهم وديع الصافي ونصري شمس الدين وملحم بركات وهدى حداد ومروان محفوظ وعازار حبيب وغسان صليبا وجوزيف صقر وإيلي شويري وغيرهم الكثير، مؤكدة أن ما أنتجه الرحابنة من موسيقا وأغان وما أنتجه الآخرون بتأثير الرحابنة عليهم هو حضور قوي في ثقافة المحيط المتلقي لهذه التجربة العريقة، إلى حد يصح القول إن الحالة الرحبانية هي جزء من التكوين الثقافي لأبناء بلاد الشام.