هدّموها.. أحرقوها.. أبادوا أهلها وأرادوا إزالتها من الوجود ولكنها بقيت، صمدت صمود قلعتها رغم أنوف الغزاة، استطاعت أن تقهر "خسرو الثاني" ملك الفرس الذي أشعل الحرائق في طول المدينة وعرضها، وأخيراً عاد مدحوراً، أما الصليبيون الذين احتلوا المدينة ولكن بعد حصار طويل وبعد قتال ضارٍ مع حلب.. واستولوا على حماة.. أين هم الآن؟.. والمغول قاموا بذبح أهل حلب، قتلوا وأحرقوا ودمّروا أيضاً ولكن حلب بقيت تقاوم وصمدت ولم تنتهِ، وها هي حلب تقاوم الأمريكان والصهاينة الغزاة وكل أشكال الإرهاب الإسلاموي المتطرف، وها هي اليوم صامدة بهمة أهلها الغيارى.
منذ عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام وكما جاء في معجم البلدان "وفي جانب سور المدينة التاريخي قلعة في أعلاها مسجد وكنيستان، وفي إحداهما كان المذبح الذي قرب عليه سيدنا إبراهيم، وفي أسفل القلعة مغارة كان يخبئ بها غنمة وكان إذا حلبها أضاف الناس بلبنها، فكانوا يقولون حلب أم لا؟" ويسأل بعضهم بعضاً، فسميت حلب؟. وهناك روايات كثيرة حول تسمية المدينة ولكن بعضها يكمل البعض حيث يقال: إن بين أغنام إبراهيم كانت بقرة شهباء وكان بعض القادمين عليه يفضلون لبنها على غيره فكانوا يقولون، لقد حلب الشهباء وبهذا بقيت صفة الشهباء تلازم اسم حلب.
كلما ذكرت حلب ذكر اسم "سيف الدولة" وهو أبو العلي حسن الحمداني الذي استطاع سنة 944 أن ينتزع من الإخشيديين مدينة حلب وأنطاكية وحمص وأن يحصل من الخليفة العباسي على لقب "سيف الدولة" وقد اختار حلب عاصمة له وذلك بسبب وجود القلعة القديمة فيها وقربها من حصون كثيرة، إذ كان ينوي دفع تلك الغارات التي أخذ الروم يشنونها على المدينة، ولأول مرة بعد عهد الأمويين غدت المدينة قاعدة ذات خطر، حسب اعتراف الأعداء لأنه دخل صراعاً مباشراً معهم حتى دحرهم، وقد أحاط "سيف الدولة" نفسه بحلقة من أرباب العلم والأدب ضمت الشهير والموسيقي البارع "أبا نصر الفارابي"، والعالم اللغوي "ابن خالويه"، والنحوي "ابن جني"، والشاعر "أبا فراس الحمداني" و فوق هؤلاء كان الشاعر العربي الكبير "المتنبي" الذي لازم قصر "سيف الدولة" لمدة تسع سنوات، وهكذا كانت المدينة تجمع بين سيوف الفرسان وأقلام العلم والنحو والأدب.
أينما تذهب في المدينة، وفي أي اتجاه تكون، ستكون قلعة حلب التاريخية أمامك رابضة على ذلك التل الصخري الأبيض، شامخة اليوم كما كانت شامخة في الماضي، جدرانها العالية وبواباتها الضخمة تروي للزوار قصة تاريخ مدينة لم يستطع أعتى الطغاة الوقوف أمامها وعطر ينبعث منها مزكّى بدم آلاف الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الوطن والحرية والكرامة، ومازالت القلعة تهتف بأعلى صوت أن لا بديل للحرية ولا مكان للغزاة على هذه الأرض الطاهرة.
د. رحيم الشمخي - كاتب وأكاديمي من العراق
المصدر: صحيفة تشرين