يصعب تصور طبيعة التفاوض القادم بعد سيطرة الدولة على معبر نصيب، فالمسألة لا تتعلق بالأوراق الجديدة للحكومة السورية إنما بطبيعة التمثيل، ورغم أن السيطرة على الأرض كانت تمنح قوة تفاوضية لـ«الهيئة العليا للتفاوض»، رغم عدم تمثيلها الكامل للمجموعات المسلحة، لكن في الوقت نفسه فإن التفاوض في جوهره كان ضمن نموذج فرضه الشكل الدولي لحل الأزمات، ويعتمد أساسا على تساوي كامل الأطراف مهما كان الوضع الميداني.
اعتمد النموذج الدولي منذ أول نسخة من جنيف على فرض تصور واحد يعتمد على تغير الدولة القائمة؛ واعتبارها نموذجاً منتهي الصلاحية بالنسبة للمجتمع الدولي، أو بالأصح الغربي تحديدا، ومنذ اللحظات الأولى ظهر الخلاف الحاد على المستوى الدولي حول شكل سورية القادم، وكان التصور الأساسي يستند إلى ثلاثة أمور أساسية:
– الأولى هي الرعايتان الدولية والإقليمية لأي حل قادم، فكان أول لقاء في جنيف من دون حضور سوري، حيث تولت الدول المجتمعة وضع التصور المبدئي لأسس الحل، ثم دعت الأطراف في لقاء لاحق للحضور بوجود الأطراف الدولية والإقليمية.
– الثاني إدخال الحكومة السورية كطرف أساسي في حل الأزمة، ولكن منهجية التفاوض كانت تعتمد الوجود الرسمي السوري لتأمين المرحلة الانتقالية، وليس كطرف يمثل شريحة، بغض النظر عن حجمها، فالتفاوض كان عملية تحويل القوة من الحكومة باتجاه أطراف أخرى مثلتها في معظم المراحل وفد «الهيئة العليا للتفاوض».
– الثالث الحفاظ على مؤسسات الدولة خلال جميع المراحل وصولا إلى الانتخابات وظهور «شرعية جديدة»، ورغم أن هذا الشرط يبدو منطقيا لكنه كان جزءا من ألغاز جنيف لأنه مثل مرحلة من التفكير بـ«المحاصصة» بين الأطراف، وليس تحييد عمل الدولة عن التفاوض.
كان التفاوض في جنيف منذ لحظاته الأولى توزيعا للشرعية بين أطراف لم تستطع الحصول على الشرعية عبر العملين السياسي والعسكري، ولم تمتلك أي تمثيل ولا حتى للفصائل المسلحة التي توزعت في ذروة الأزمة بين «داعش» و«جبهة النصرة» الرافضتين لأي تفاوض، فالعملية ال
سياسية بالكامل لم تكن تملك «سياسة» في الداخل ولا حتى في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، ومن هذا الباب ظهرت المبادرات المدنية التي حاولت أن تكون ذراع الحل السياسي، وظهرت مؤتمرات عديدة طافت العالم، وكانت غرفتا المجتمع المدني والنساء خلال لقاءات جنيف جزءاً من محاولة تكوين توجهات عبر تمثيل يُفترض أن يكون غير سياسي، ولكن كل التحركات استندت في النهاية إلى توزيع قوة الدولة اعتمادا على نظريات الليبرالية الجديدة، وبالتأكيد كان رعاة هذا التصور يعرفون تماما أن يستندوا إلى ثقافة مختلفة ومجتمع يصعب تصور اعتماده على الليبرالية كما تقدمها آلية التفاوض.
يمكننا اليوم تلمس عدم القدرة على الاستناد إلى النموذج الدولي السابق لحل الأزمات؛ رغم استناده إلى قرارات من مجلس الأمن، واعتماد الجميع على آلياته سواء في التفاوض أو حتى في الرؤية العامة لمسألة «اقتسام» السلطة، فالمعضلة السورية لم تظهر في مسألة اقتسام السلطة فقط، بل أوضح التفاوض أن قوة المعارضة لا تستند إلى قدرة
سياسية في الإمساك بالأمور، أو حتى قدرة افتراضية بأنها قادرة مستقبلا على المنافسة السياسية، فمع تتالي سنوات الأزمة تكشفت أننا أمام «سياسة سائلة» لا يمكنها الاعتماد على مرجعية محددة.
شكل التسوية القادم يقدمه اليوم نموذج روسي عبر عمليات المصالحة، ويبدو أنه أكثر قدرة على التجاوب مع فقدان السياسة داخل القوى والأحزاب السورية، وبغض النظر عن مستقبل هذا التكتيك الروسي، لكنه بالنسبة لموسكو أمن مبادراتها ال
سياسية التي أطلقتها في «أستانا»، ويؤمن اليوم مسار مؤتمر سوتشي عبر مسألة الدستور، فالمراجعة الأساسية لكل التفاوض تضعنا حتى اللحظة على مسار روسي، وفي المقابل فإن الحل السياسي ربما ينتظر استكمال المصالحات التي ستكون في النهاية آلية لوضع رؤية لشكل «التسوية» القادمة.
مازن بلال / الوطن