منذ سنوات وأنا أتابع اللغة التي يستخدمها الغرب للتعبير عن سياساته وإجراءاته حيال بلداننا وتأثير هذه اللغة على المفاهيم التي تنتشر في أذهان الناس، بل وحتى على مفهوم أصحاب الحقوق عن حقوقهم. فمنذ عقدين ونيّف كتبتُ عن تأثير المصطلح في الحق العربي والفلسطيني وأثبت للقرّاء كيف أنّ هذا الحقّ يتزحزح من مكانه ليس فقط بسبب الحروب وخسارة الأرض بل بسبب تطوّر استخدام المحتل للغة تقضم الحقوق واحداً بعد الآخر وتصبح هي المعبرة الوحيدة عن المرتسمات على أرض الواقع. فمثلاً ومنذ أن بدأت أتابع بدقة اللغة التي يستخدمها خصومنا لتوصيف الحال بيننا وجدت أنّ الكيان الصهيوني اعتمد صيغة المبني للمجهول دائماً وأبداً لتوصيف الأحداث التي تحدث للفلسطينيين الواقعين تحت احتلاله البغيض، ولم يستخدم أبداً صيغة المبني للمعلوم وكأنّ الفاعل دائماً وأبداً مجهول الهوية. فنقرأ "قُتِل فلسطينيان وهما يحاولان عبور خط ما"، أو "قُتِلت فلسطينية بعد محاولتها طعن جندي إسرائيلي"، أو "ألقي القبض على مخربين فلسطينيين"، ولا يوجد أيّ استثناء لهذه القاعدة في كلّ ما راجعته من نصوص تتحدث عن الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني.
وإذا ما انتقلنا إلى المستوطنات مثلاً فقد كان الحديث منذ عقود يدور حول "تفكيك المستوطنات"، ثمّ انتقل إلى "تجميد المستوطنات"، ثمّ إلى "إيقاف النشاط الاستيطاني لمدة أشهر"، واليوم إلى "الإبقاء على المستوطنات"، ودفع دراهم للمناطق الفلسطينية أو ما تبقى منها بعد قضم معظمها لتزدهر اقتصادياً تحت الاحتلال ويبقى الاحتلال يحتفظ بالاستيطان والأرض والمياه ويهضم حقّ الفلسطينيين في أرضهم وديارهم وقدسهم ومستقبل أجيالهم. والمشكلة الأساسية هي أنّه لا يوجد على الطرف المقابل رواية عربيّة تصل أرجاء الأرض لتنفي هذه اللغة وتثبت لغة حقّ الأهل الأصليين للبلاد، وهكذا ينتقل الصراع العربيّ الإسرائيلي من مرحلة إلى أخرى ويهضم الكيان المحتل الحقوق ويثبت هضمه لها لغوياً وإعلامياً قبل أن يتمكن من تثبيت ذلك على أرض الواقع.
وفي هذا العقد الأخير راقبت الشيء ذاته يحدث لبلدي سوريا، حيث اتخذت لغة الخصوم والأعداء والمستهدفين لهذه الأرض والمتواطئين من أبنائها مع الأعداء مساراً مختلفاً تماماً عن مجريات الأمور على أرض الواقع، فكان المسار اللغوي للخصوم هو الأكثر حضوراً في الإعلام الغربي، وهو الذي ينشر المفاهيم عمّا يجري على هذه الأرض. وكانت البداية التشويهية مع تسمية كلّ من يستهدفون سوريا أنفسهم "بأصدقاء سوريا"، وتسمية أسوأ أنواع الخراب الذي حلّ ببلد آمن مسالم مستقر بــ "الربيع العربيّ" وتسمية من باع وطنه بثمن بخس بــ "المعارضة" وإعطاؤهم مشروعية تمثيل سوريا، وتسمية المساعدات للإرهابيين وسفاكي الدماء بــ "المساعدات الإنسانية"، وإعطاء جائزة أوسكار لمنظمة إرهابية أثبتت كلّ الأبحاث الدقيقة أنّها متورطة بسفك دماء الأطفال السوريين والمدنيين، ومع ذلك يُعرض على الشاشات الأوروبية والغربية فيلم مختلَق يتحدث عن إنسانية هذه المنظمة ومساعدتها للسوريين. والأمر ذاته ينطبق على فبركات الكيميائي وغيره التي أصبحت مثبتة لكلّ من يؤمن بالتدقيق بالحدث واستقراء تفاصيله الحقيقية. ومع ذلك تستمر اللغة الغربية في مسارها متجاهلةً تماماً المسار على أرض الواقع. وفي التفاصيل، ونحن نوثق اليوم لنتائج هذه الحرب، وهذا الاستهداف والحصار على المواطنين السوريين في مدنهم وقراهم ومدارسهم ومعاملهم، نجد أنّ الآثار الإنسانية لعناوينهم وإجراءاتهم المضلّلة كارثية على حياة البشر، من فقدِ البيت إلى الخروج من التعليم إلى فقد الأهل والأحبة إلى تشتّت الأسرة إلى الانكسار المادي لمن كان يعيش عزيزاً على أرضه فدمرت الحرب معمله أو مصدر رزقه أو أحرقت محصوله وأرضه أو اغتالت طفله الوحيد فاغتالت بذلك حياته وأحلامه المستقبلية. وكلّ هذه التفاصيل من حياة النّاس لا تعنيهم أبداً رغم أنّهم يتحدثون عن حقوق الإنسان وعن الحرية وعن الإعلام الحرّ، هذه الأحاديث التي فقدت معناها لأنّها أثبتت أنّها تنحصر في دائرة النفاق فقط ولكنّه نفاق عالمي يدفع ثمنه ملايين البشر الأبرياء في مناطق مختلفة من العالم.
كلّ هذه السيناريوهات عادت إلى ذهني بقوّة وأنا أتابع الجدل الشديد بين الغرب والجمهورية الإسلامية والذي اتخذ منحىً حاداً بعد أن قرصنت حكومة جبل طارق ناقلة نفط إيرانية بحجة أنّها متجهة إلى سوريا، وبغضّ النظر عن وجهتها الحقيقية فكيف يحقّ للولايات المتحدة والحكومة البريطانية أن تحرم الشعب السوري من الوقود؟ وفي الواقع الفعلي يعني ذلك حرمان ملايين السوريين من حقوق الإنسان بالحياة الكريمة، وكان مبررهم الوحيد هو الاشتباه (وليس التأكّد) أنّ الناقلة متجّهة إلى سوريا، علماً أنّ الإجراءات كلّها التي اتخذوها ضد سوريا غير قانونية ولم تحظَ بموافقة مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، بل هي إجراءات قسرية أحادية الجانب اتخذتها الولايات المتحدة ضد كلّ القوانين والشرعية الدولية واستندت عليها كأساس لقرصنة النفط الإيراني ومحاولة فرض هيمنتها على المضائق البحرية. وتبدو المفارقة واضحة جداً حين نقارن بين ردود الفعل الغربيّة حين قرصنت حكومة جبل طارق ناقلة النفط الإيرانية وحين احتجزت إيران ناقلتين بريطانيتين، فقد عبّرت الخارجية الفرنسية عن قلقها لاحتجاز ناقلة نفط بريطانية في إيران، وعبّرت عن تضامنها الكامل مع بريطانيا واعتبرت أنّ هذه الخطوة تضرّ بوقف جهود التصعيد في المنطقة. كما اعتبرت الخارجية الألمانية أنّ الاحتجاز غير المبرر لناقلتين في مضيق هرمز خطوة تفاقم بشدة الوضع المتوتر في المنطقة. بينما لم نقرأ مثل هذه اللغة وردود الأفعال أبداً حين قرصنت بريطانيا ناقلة النفط الإيرانية. ومتابعة اللغة المستخدمة بخصوص هذا الموضوع تدعو للتفكير أنّ أولى الأولويات يجب أن تكون توثيق هذا التاريخ بلغتنا ونشره للبشرية ليكون التاريخ الحقيقي الذي يطلع عليه البشر وهذا بحدّ ذاته سيغيّر معادلة الهيمنة والتي اتخذت من اللغة والإعلام أداة أساسية للوصول إلى عقول وقلوب البشر. فقد أعلنت بريطانيا منذ أيام أنّها أرسلت بارجة إلى الخليج لضمان أمن الخليج، وأنّها والولايات المتحدة وحلفاؤهما يتخذون إجراءات ويناقشون كيفية ضمان أمن الخليج، مع أنّهم جاؤوا من مسافة آلاف الكيلومترات لتهديد أمن بلدان الخليج. أيّ أنّهم يناقشون كيفية الهيمنة على مياه الخليج ومضائقه وكيفية ممارسة الضغوط الاقتصادية على إيران بهدف إحداث نقمة في الداخل الإيراني وزعزعة استقرار هذا البلد، إلى أن يتمكنوا من تغيير سياساته المقاومة وإجباره على الدوران في الفلك الغربي.
فقد أعلن متحدثون في الولايات المتحدة وعلى رأسهم الرئيس ترامب أنّه لا يريد مهاجمة إيران ولا شنّ حرب على إيران ولكنّه يريد تغيير "سلوك النظام الإيراني" تماماً كما أعلن المبعوث الأميركي إلى سوريا أنّ الولايات المتحدة لم تعد ترغب بتغيير النظام في سوريا ولكنّها ترغب بتغيير "سلوك هذا النظام". أيّ أنّه من الممنوع على هذه البلدان الاستقلال الحقيقي والسيادة الحقيقية، والمطلوب هو تنصيب دمى تدور في الفلك الغربي وتنفّذ أوامره تماماً كما تفعل كثير من بلدان المنطقة اليوم.
وإذا كان الثمن هو معاناة أو حتى موت ملايين البشر من سكان هذه البلدان فهذا لا يدخل في حساباتهم أبداً ولا يعنيهم مصير شعوبنا وحياة هذه الشعوب أو مماتها. هذه هي الحقيقة فعلاً فكيف نستكين لمن شوّه تاريخنا وهويتنا على مدى عقود وما زال يقلب الحقائق رأساً على عقب ونحن شهود على ما يجري من دون أن نجترح كلّ الأدوات لكتابة تفاصيل تاريخ بلداننا وشعوبنا ونقله إلى العالمية لندحض، ولو بعد حين، كلّ ما ادّعوه، ولنكشف الأسباب الكامنة وراء مجريات الأحداث التي يختلقونها لبلداننا وشعوبنا ومنطقتنا، ويكلفون أبناءنا ثمناً باهظاً من حياتهم ودمائهم. أَوَ ليس أضعف الإيمان هو أن نسجّل وعينا بكلّ ما يجري تاريخاً يكون الوحيد الصادق الذي يعتمده المؤرخون والباحثون في أرجاء المعمورة؟.