وبالرغم من يُتمِه المُبكّر، فقد نشأ في جوّ مُحافظ، مُفعم بالرعاية والحنان، تسري فيه روح الدين الإسلامي الحنيف؛ ممّا طبَعَ شخصيته ونفسيته. وكان له بالغ الأثر في تربيته وتكوينه على مدى عمره. وكان والُد ذوّاقة للأدب، حادَّ الذكاء، مُلمّاً بالفرنسية والألمانية. ولعل روح هذا الوالد كان لها بعضُ الأثر على أمجد؛ إن لم نقل الأثر العميق في ميوله الأدبية وحبّه للكلمة.
بدأ تعليمه في كتاتيب دمشق، ثم بالمدارس الرسمية حيث أحرز على الشهادة الابتدائية؛ فالتحق بعدها بـ «ثانوية عنبر» سنة 1927. وهي الثانوية التي كانت «تضمّ - كما قال عنها أمجد في حفل استقباله في مجمع اللغة العربية بدمشق- في عِداد أساتذتها ثلاثة من فحول العربية كلهم أساتذتي، ولكلّ منهم عليَّ من الفضل ما لا يسَعُه عرفاني بالجميل: اثنان منهم كانا عصويْن عامليْن في المجمع، هما: عبد القادر المبارك وسليم الجندي، والثالث كان يشق طريقه إلى المجمع وهو محمد البَزِم؛ أعلام ثلاثة أحالوا المدرسة آنئذ إلى مجمع آخر بعلمهم الغزير ودروسهم الشيِّقة».
وظل قريباً من أستاذه محمد البزِِم مدة سنوات سبع، وقد تتلمذ له في الصفيْن السابع والثامن, وكان أستاذه هذا يٌلقِّبُه بالنابغة، وهو بعدُ في السنة الثانية« حتى أخذ رفاقي في الصفّ يَنبزونني بهذه التسمية، بدلا من تلك التي خصّني بها أبواي»، كما جاء على لسان أمجد. فقد كان الأستاذ محمد البزم، يتحدث عن الطبع المتوقد لتلميذه أمجد، ويُبدي إعجابَه بنبوغه المبكر، وكان يجرّه جرّاً إلى قاعة الأساتذة ليقرأ في حضرتهم ما كتبه من إنشاء.
وكان يُكافئه بين الفينة والأخرى، كما يُكافئ كثيراً من زملائه؛ بأن يشتريَ له كتاباً، من أمهات كتُب الأدب، ويضع عليه عبارة إهداء بخطه وإهدائه.
في هذه الثانوية العتيدة تفتَّقّتْ عبقرية أمجد الطرابلسي، ومنها بزغت أسماء كثير من الأدباء والمصلحين في بلاد الشام.
من «ثانوية عنبر» هذه حصل أمجد على شهادة الباكلوريا قسم الفلسفة سنة 1934، وكانت هي السنة التي بدأ فيها ينشر شعره في مجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات، وهم ما يزال بعدُ تلميذاً في المرحلة الثانوية، وأخذ اسمُه منذ ذلك الحين طريقَه إلى الأوساط الأدبية في العالم العربي.
كان عمره يُناهز الثانية عشرة حين رحل إلى قرية « حبات الزيت» في الجنوب من بلاد الشام، مروراً بالقنيطرة سنة 1935؛ ليكون معلماً بها. وفي السنة الموالية انضمّ إلى صفّ المعلمين، وبعد حصوله علة الشهادة فيه؛ ندبَتْه وزارة المعارف سنة 1937 لتدريس اللغة العربية في ثانوية الكلية العلمية الوطنية في دمشق، وكان زميله فيها المرحوم خليل مردم بك الرئيس الأسبق للمجمع العلمي العربي.
وفي أواخر سنة 1938 أوفدتْه الحكومة السورية إلى فرنسا على نفقتها للتخصص في الأدب، وذلك إثر نجاحه في مسابقة مُعّدَّة لذلك.
كان من المقرر أن يعود أمجد من رحلته الدراسية بعد ثلاث سنوات، ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون عودته إلى وطنه، فعزم على مواصلة البحث والدراسة. فهيّأ ليسانس في الأدب سنة 1941، ثم دافع عن أطروحته في اليوم السادس من يناير سنة 1945 بباريس، تحت إشراف المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ) 1900 – 1973 (، وخلال إقامته وغربته بباريس تزوج أمجد رفيقة دربه السيدة الفاضلة: مونيك.
وعاد أمجد إلى وطنه ليعمل مدرسا في « ثانوية التجهيز» وهي تحمل اليوم اسم « جودة الهاشمي» سنة 1945.
وفي سنة 1946، وبعد أن تمّ إنشاء كلية الآداب، جامعة دمشق، كان أمجد أول أستاذ يُعيَّن بها لتدريس الدب العربي. فبدأت رحلتًه المجيدة في تدريس التراث الأدبي والنقدي، وترسيخ البحث في مجالات ذلك التراث. فكان من المؤسسين للتعليم الجامعي في بلاد الشام، وتميّز أمجد في مساره العلمي بروح وطنية منقطعة النظير، وأبدى تفانياً في حب العربية وتراثها. وظل يُدرِّسُ بكلية الآداب، دامعة دمشق إلى حدود سنة 1958.
وفي سنة 1958 تم الاتفاق على الوحدة بين سوريا ومصر، وفيها عَيَّنَ الرئيسُ جمال عبد الناصر د. أمجد الطرابلسي وزيراً للتربية والتعليم في الإقليم السوري، ووزارة الثقافة مضافة إليها؛ وكان ذلك في أول تعديل لحكومة الوحدة )24 ربيع الأول 1378 هـ موافق 7 تشرين الأول 1958 (، وأعاد الرئيس جمال عبد الناصر تشكيل الوزارة في 5 ربيع 1383 هـ الموافق 16 آب 1961، فتسلّم د. أمجد الطرابلسي وزارة التعليم العالي في دولة الجمهورية العربية المتحدة.
وفي سنة 1960 صدر في الخامس عشر من يونيو قرارَ رئيس الجمهورية العربية المتحدة بإنشاء مجمع اللغة العربية الموحد في إقليمي الجمهورية، وصدر قرار رئيس الجمهورية برقم 57 لسنة 1961 بتسمية كل من شكري فيصل ومحمد مبارك وأمجد الطرابلسي أعضاء في مجمع دمشق.
واستقال الأستاذ أمجد من وزارة التعليم العالي بتاريخ1 جمادى الأولى 1381 هـ الموافق 10 تشرين الأول 1961، وكان ذلك إثر استقالة الوزراء السوريين من حكومة الوحدة. وتبدَّدَ حلْمُ الوحدة في 28 أيلول/سبتمبر 1961، واعتزل د. أمجد الطرابلسي العمل في هذا الميدان.
ومنذ أواخر سنة 1962 حلّ بأرض المغرب، وأقام بها إحدى وثلاثين سنة أستاذاً بجامعة محمد الخامس بفاس والرباط، وفي الفترة الأولى من حياته سكن في مدينة الدار البيضاء، ثم استقر بالرباط إلى يوم رحيله عن المغرب سنة 1993.
جاء الأستاذ أمجد إلى المغرب، وهو في أوج عطائه العلمي؛ فوهب حياتَه وعلمَه للتعليم الجامعي بالمغرب، وكانت الجامعة المغرية تتحسس حينئذ طريقها، فكان أحد الأعمدة التي قامت عليها. وأفنى حياته في تكوين أجيال من الباحثين، وظل يدرس ويؤطِّر بحوث الإجازة ودبلوم الدراسات العليا وأطروحات الدكتوراه إلى أن تقاعد سنة 1992. وقد درّس في كل من الرباط وفاس ) كلية الآداب( ومراكش ) كلية اللغة العربية: عشر سنوات(. وبقي بالغرب سنة بعد تقاعده، ثم رحل إلى باريس في أكتوبر 1993 ليقضي بقية حياته بها.
كان الأستاذ أمجد من العقول المدبرة لمسار التعليم الجامعي بالمغرب، ومن المؤسسين لأكاديميته، والمتفانين في رعايته وتوجيهه، والعاملين على ترسيخ هويته. وشهد له الناس بالفضل لما أسداه من خير كثير للجامعة المغربية.
أحبَّ الأستاذ أمجد بلاد المغرب، ووهب تعليمها الجامعي كلَّ ما يَملك من وقت وطاقة وعلم، وتعلق به طلبتها، وحل من نفوسهم مكانة خاصة جعلت منهم مريدين له.
وبعد انقطاع عن مجمع اللغة العربية بدمشق دام عشر سنوات، كان الاحتفال باستقبال الأستاذ أمجد بالمجمع سنة 1972. وممّا قاله عن ارتباطه منذ طفولته بالمجمع:« كان لي هذا المجمع منذ تفتَّحّتْ عينايَ على أدب العرب، وتمرَّسَ لساني بلغة العرب؛ وطناً في وطن، وأهلاً إلى أهل. في " ظاهريته" تعلمْتُ كيف أقرأ، وفي ندواته ومحاضراته كيف أفكر وأسمع. لا أذكر على وجه التحديد متى بدأ تردُّدي على قاعة " الظاهرية" ومحاضرات المجمع. فقد غاصت ذكرياتي عن كل هذا ما غاص في الماضي من خيالات الطفولة وصور الصبا. ولربما تسرّيتُ إلى هذه المرابع وأنا تلميذ في تطبيقا "عنبر" أحبو إلى الحادية عشرة من عمري».
ومما قاله د. شكري فيصل عن د. أمجد في حفل استقباله هذا:« كان من هذا الجيل الذي يُؤمن بالعمل فوق ما يؤمن بالنظر، والشعارات عنده لا تقوم مقام التطبيق، والمنية لا تنقلب بالترداد واقعاً، والنصر ليس أُنشودة.
كان من هذا الجيل الذي لا يوازن بين حق الوطن وحق المواطن؛ ولكنه يعطي الوطنَ قيمةً صوفيةً عميقةً مجرّدةً؛ تتضاءل كل قيمة أخرى أن تُطاولها، بله أن تقاسمها الوجود».
كيف كانت صورة أمجد في المغرب؟
كان من الرموز الثقافية في الجامعة المغربية، منذ التحق بها سنة 1962، وظل خلال مدة إقامته بالمغرب الأستاذ النموذجي للأستاذ الجامعي.
ومن آثاره العلمية:
أولا: في مجال تأليف الرجال:
اتجه الأستاذ أمجد إلى التعليم الجامعي المغربي برغبة في تكوين الأجيال وإعدادها؛ فالتزم بتأليف الرجال لا بتأليف الكتب. وهكذا تخرَّجت على يديْه في كل من سوريا والمغرب أجيال أصبحت لها مراكز كبرى في الإدارة والسياسة والتفتيش والتعليم الجامعي.
وقد كان الطلبة يوم قدومه إلى المغرب لا يتجاوز عددهم أصابع اليد. فقرّ عزمه مع ثلة من علماء المغرب على إعداد باحثين مغاربة. وأغلب أساتذة هذه الجامعة اليوم هم من طلبة الأستاذ أمجد، أو هم من طلبة طلبته.
ثانيا: في مجال التحقيق والتأليف:
أ – في مجال التحقيق:
1 – زجر النابح لأبي العلاء المعري ) مقتطفات( مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، المطبعة الهاشمية بدمشق – ط1: 1385 / 1965، ط 2:1982 . [ وهو كتاب ردَّ فيه أبو العلاء على من تكلموا على أبيات من ديوانه " لزوم ما لا يلزم"، ورموْه بسببها بالكفر؛ فألّف هذا الكتاب للردّ على الطاعنين في دينه. وقد أتيح للأستاذ أمجد العثور على مخطوطة الكتاب في قسم المخطوطات بالمتحف البريطاني، لندن سنة 1954. وقال عن موضوع الكتاب في مقدمة التحقيق:« هو أحد التصانيف العلائية التي تكشف لنا عن الصراع الذي كان يدور في حياة أبي العلاء نفسه حول آثاره وآرائه ومسلكه في حياته وبين نفر من خصومه»، ص15 – ط1].
2– الصاهل والشاحج لأبي العلاء، حققه في المغرب تلبية لرغبة مجمع اللغة العربية، الذي زوّده بمخطوطتيْن ثمينتيْن؛ تضمهما الخزانة الملكية بالمغرب. وقبل أن يُخرج الكتاب محقّّقاً في سلسلة منشورات المجمع، بادت د. عائشة بنت الشاطئ إلى إخراجه، وأصدرت تحقيقا باسمها؛ فتألَّم الأستاذ أمجد مما وقع. وظل تحقيق الأستاذ أمجد للكتاب مخطوطا، ولا يُعرف إلى اليوم المصير الذي آل إليه. ومن حسن الحظ أن الأستاذ أمجد كتب دراسة هامة حول « الصاهل والشاحج»، نشرت في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1964، وتقع في ثمان وثلاثين صفحة.
ب - في مجال النقد الأدبي:
3 – النقد والغة في رسالة الغفران ) دروس ومحاضرات ألقاها على طلاب شهادة آداب اللغة العربية بكلية الآداب، خلال العامين الدراسييْن: 1949 – 1950 و 1950 - 1951، مطبوعات الجامعة السورية، دمشق 1370/1951(.
4 - نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة [ أطروحته للدولة تحت إشراف ريجيس بلاشير) 1900-1973( دافع عنها سنة 1945]،) الطبعة الأولى بالفرنسية، منشورات المعهد الفرنسي بدمشق التابع لجامعة الصوربون، 1956، ترجمة إلى العربية: د. إدريس بلمليح – ط1، الدار البيضاء، دار توبقال، 1993(.
ج - في مجال البحث والدراسة:
5- نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب في اللغة والأدب ) خمس طبعات، أولها بمطبعة الجامعة السورية 1956، وآخرها سنة 1986 بالمغرب(.
6 – شعر الحماسة والعروبة في بلاد الشام أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ) نشرته جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1957(.
ثالثا: في مجال الإبداع الشعري:
ديوان شعر، عنوانه « كان شاعراً» [ من مطبوعات المجلس القومي للثقافة العربية 1993، وقد أهدى ديوانه إلى زوجته فقال: إلى رفيقة الدرب منذ خمسين عاما؛ أم أولادي، وجدة أحفادي: مونيك الحبيبة: زوجتي].
ومما تجدر ملاحظته أن ما نشره الأستاذ أمجد في مجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات، من أوائل سنة 1934 إلى أواخر 1940 يقدِّم ديوانا كبيرا...
رابعا: المقالات والمحاضرات
له محاضرات ومقالات كثيرة نشرت في المجلات والدوريات، وما تزال موزعة في العالم العربي، ولم يُكتب لها الجمع، ومحاضراته تتوزعها عواصم العالم العربي.
وفي يوم الأحد الثالث من شهر ذي القعدة 1421 الموافق ليوم 28 يناير 2001، انتقل إلى رحمة الأستاذ أمجد الطرابلسي، أستاذ الأجيال. وكان ذلك في الساعة الخامسة من صباح يوم الأحد، ودُفن بمقبرة كوربفوا ) Courbevoie (، بباريس يوم الأربعاء 31 يناير 2001، عن سن يناهز 84 سنة.