فقد تحدث جيفري فيلتمان عن لبنان وكأنه المندوب الأميركي للبنان والمسؤول عن توجهاته المستقبلية وإنقاذه من سورية وإيران وروسيا لصالح حلفائه في المنطقة، ومن هم سوى الكيان الصهيوني.
واللافت أنه افتتح مداخلته بالحديث عن أهمية لبنان على البحر المتوسط وأهمية النفط والغاز وخطورة أن تنفذ روسيا التي تمرست في سورية إلى لبنان أيضاً، باعتبار أن هذا سيشكل ضربة قاصمة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، كما أنه لم ينسَ أن الصين قد تشكل خطراً على الولايات المتحدة في لبنان وخاصة إذا ما وجد اللبنانيون تقنية الجي 5 الصينية جذابة لهم في ضوء الوضع المتردي لشبكة الاتصالات في لبنان، وباختصار وجد فيلتمان أن لبنان يشكل مكاناً لتنافس قوى دولية وأن الولايات المتحدة يجب ألا تسمح لسورية وإيران وروسيا أن يأخذوا مكانها في لبنان.
يمكن القول إن هذا هو أساس اعتبارات فيلتمان دون أي اعتبار لمصلحة لبنان والشعب اللبناني وإنه يعوّل على الميل التاريخي للبنانيين تجاه الغرب، كما أنه اعتبر أنه من حسن الحظ أن الحراك في لبنان وردود فعل القادة اللبنانيين عليه قد تتوافق مع مصلحة الولايات المتحدة ومع تسويفه طبعاً، لكل الحقائق حول حزب اللـه والتيار الوطني الحرّ واختلاق مشاعر وأكاذيب يودّ فيلتمان لو تكون صحيحة على أرض الواقع مدّعياً أن حزب اللـه يخلق إمكانية الحرب مع إسرائيل بدلاً من حماية اللبنانيين من إسرائيل، وكأن الفلسطينيين هم الذين خلقوا خطر الاستيطان وابتلاع الأرض وتهويد كل ما له علاقة بفلسطين ولولا المقاومة لما كان الفلسطينيون واللبنانيون عرضة للخطر الإسرائيلي.
والسؤال هو: أيهما وُجد أولاً الاحتلال أم المقاومة؟ ومتى كانت المقاومة هي الخطر، وليس الاحتلال والاستيطان؟ كما تناول التعاون القائم بين حزب اللـه والتيار الوطني الحرّ بأنه سبب تصاعد المشاعر والنزول إلى الساحات، واعتبر فيلتمان أن عدم الوفاء بتقديم المعونة للجيش اللبناني يظهر الولايات المتحدة وكأنها شريك غير موثوق به. وفي هذه العبارة مدعاة للتساؤل إذا ما كان فيلتمان يعتقد أن الولايات المتحدة مازالت على المستوى الدولي شريكاً موثوقاً به وهي التي تتنصل من توقيعها ومن اتفاقاتها الدولية، وفي كلّ الاتجاهات.
وقدّم فيلتمان للشعب اللبناني خياراً بين المقاومة وسورية وإيران وروسيا من جهة وبين الازدهار والانتعاش الاقتصادي من جهة أخرى، والذي يقترحه فيلتمان ليس من جيب وميزانية الولايات المتحدة وإنما من ميزانية مجلس التعاون الخليجي وكأنها بتصرفه وتحت إمرته، وهذا الكلام يعيد إلى الذاكرة كل الدعايات الأميركية في عام 2002 والتي وعدت العراقيين أن العراق بثرواته وشعبه سيصبح أنموذجاً للدول العربية وستسعى الدول العربية كافة للسير على الطريق الذي أوصل العراق إلى هذا الأنموذج.
وها نحن اليوم وبعد ستة عشر عاماً بعد الاحتلال الأميركي للعراق لم نشهد سوى نهب النفط العراقي والثروات العراقية، وكتابة دستور على يد «بريمر» أبقى العراق مكبلاً إلى عقود قادمة في دستور لا يملك أحد الخروج منه، كما تمّ قتل أو خطف العلماء العراقيين والخبرات والأدمغة التي كانت مؤهلة للارتقاء بالعراق وتضميد جروحه ووضعه على الطريق السليم وأنتجوا في السجون العراقية إرهاباً مازال يزعزع استقرار سورية ولبنان والمنطقة برمتها بتخطيط وتنفيذ أميركيين. ولذلك فإن الذي يشعل الحروب الأهلية، وينتعش بها هي الولايات المتحدة وليست إيران، أو سورية، أو لبنان، أو روسيا.
وبعد اعترافه بالمعضلة الاقتصادية في لبنان حمّل فيلتمان حزب اللـه هذه المعضلة بحجة أن المستثمرين لن يخاطروا بالاستثمار في بلدٍ يتمكن فيه حزب اللـه من جرّ لبنان إلى حرب في أي لحظة، متجاهلاً أن الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين هما جذر وسبب الحروب، وسبب الفقر الذي ابتليت به هذه البلدان. وقال: إن على اللبنانيين أن يختاروا بين «الفقر الأبدي أو الانتعاش والازدهار المحتملين»؛ يا سيد فيلتمان أعطني بلداً واحداً دخلته الولايات المتحدة بأي صيغة من الصيغ وتَحقّق فيه الازدهار أو الاستقرار أو الحريات أو الديمقراطية؟ من أفغانستان إلى العراق إلى ليبيا وأوكرانيا. أين البلد الذي دخلته الولايات المتحدة ولم يغرق في الفقر والتخلف، والاستبداد؟ وبين كلّ جملة وأخرى تحريض من نوع مختلف على وجود حزب اللـه وسلاح حزب اللـه والأزمة التي يشكلها حزب اللـه بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وعلى رأسهم الكيان الصهيوني الغاصب.
ويبدو فيلتمان متفائلاً مع أن هذا الحراك لا يمكن أن ينزع سلاح حزب الله، ولكنه يمكن أن يزرع الوعي في أذهان اللبنانيين كي يجردوا حزب اللـه من ممثليه في البرلمان، والذين يؤكدون إرادة حزب اللـه السياسية، وقد سقط سهواً من فيلتمان اعترافه أن عدم وجود قيادات للحراك كان أمراً مخططاً ومتفقاً عليه ولهذا رفض المتظاهرون تعيين قيادات لهم تفاوض باسمهم.
ومع أن هذا الحراك قد لا يحقق كلّ الأهداف المرسومة له فهو على الأقل في رأي فيلتمان يكسر هيبة المقدسات ويتناول مواضيع وشخصيات كانت تُعتبر من المحرمات، ويعترف فيلتمان بالقول: «حتى وإن لم تتحقق كل المكاسب المحتملة فوراً فإن 2019 تعتبر نقطة تحوّل للبنان». والسؤال هو: ما المكاسب المحتملة التي يتحدث عنها السيد فيلتمان؟ في الواقع قد أجاب عنها في مداخلته وهي نزع سلاح حزب اللـه أو تجريده من ثقة الجماهير وتغيير المزاج والحكم في لبنان كي يبقى على الشاطئ المؤيد للولايات المتحدة في صراعها على مناطق النفوذ مع الصين وروسيا وإيران.
واعترف فيلتمان أنه ليس من الحكمة التدخل المباشر في الأحداث في لبنان ولكن ربما أن «مصلحتنا ومصلحة حلفائنا» تتأثر حكماً بمجريات الأحداث في لبنان؛ فمن واجبنا أن نوضح وجهات نظرنا بالفعل قبل الكلمات.
وتضمنت مقترحاته للكونغرس الإفراج السريع عن المساعدة العسكرية للجيش اللبناني والذي يُفضّل أن يبقى بعيداً عن السياسة، وأن يعامل المتظاهرين باحترام في جميع أنحاء لبنان في النبطية وبيروت، وينبّه لبنان أنه إذا أراد دعماً دولياً فعليه أن يلبي طموحات المتظاهرين الإصلاحية فوراً.
وعاد في ختام مداخلته إلى خلق الوهم بأن لبنان والذي هو بمساحة نيويورك وبه سبعة ملايين إنسان فقط ليس من الصعب أن يتم تحويله إلى منطقة مزدهرة، تماماً كما تحدثوا عن غنى العراق ونفطه وموارده البشرية وكيف أن قدوم الولايات المتحدة إلى العراق سوف ينجم عنه الاستثمار الأمثل لهذه الموارد.
يبدو أن السيد فيلتمان مازال يعيش في الماضي ولا يدرك أن الولايات المتحدة قد خسرت سمعتها، ومصداقيتها وأنها لم تعد تمثّل الأسرة الدولية أبداً كما كانت تدعي في نهاية القرن الماضي، وأن العالم اليوم يتطلع إلى قوى ذات مصداقية تبني علاقاتها وشراكاتها على الاحترام والندية والمصلحة المتبادلة وأنّ قلة قليلة جداً تضيع وقتها في قراءة مداخلته المليئة بالمغالطات والتناقضات، وتجانب الحقيقة في كلّ نقطة تتناولها وتريد أن تبرهن عليها. ولولا حرصي على أن أوفّر الوقت على القراء الكرام وأقدم لهم خلاصة قراءتي وتحليلي لما أضعت وقتي أيضاً. فقد تجاوز الزمن منطق فيلتمان، كما أن وعي الشعوب تجاوز كل الأكاذيب التي أعادوها على مسامع هذه الشعوب مرة تلو الأخرى فقط ليكشفوا أن هدف سياسات الولايات المتحدة الأول والأخير هو السيطرة على المواقع الإستراتيجية للدول ونهب ثرواتها وإبقاء شعوبها فريسة للفقر والجهل والديكتاتورية المستبدة.