اعتاد عديدٌ من المؤمنين التنسُّكَ في الصّحاري والجبال، ومن هذه النّقطة يمكننا فهم الدّوافع الّتي أدّت إلى تأسيس عديدٍ من الأديرة في العصر البيزنطيّ بعيداً عن التّجمّعات البشريّة، إذ أتاحت لقاطنيها الابتعاد عن الوجود الدّنيويّ ومباشرةَ حياة التّأمُّل والتّفكُّر. يُعدّ دير مار موسى الحبشيّ أحدَ هذه الأديرة، ويقع في جبال الصّحراء السّورية بعيداً قرابةَ 90 كم عن العاصمة السّورية دمشقَ شمالاً، و16 كم عن مدينة النّبك شرقاً، ويتوضّع داخل ممرٍّ جبليٍّ ضيّقٍ على كتلةٍ صخريّةٍ معزولةٍ من ثلاث جهاتٍ، ما يجعله حصناً طبيعيّاً منيعاً. تنتهي به سلسلةٌ طويلةٌ ومتعرّجةٌ من الدّرجات الحجريّة، ولهذا اختار الرّومان هذا الموقع لتشييد برجٍ لمراقبة الطّريق القديم الّذي كانت تسلكه القوافل بين دمشق وتدمر، وحُوِّل الموقع لاحقاً في القرن السّادس للميلاد إلى ديرٍ للرّهبان، وأصبح مقرّاً للرّاهب مار موسى الحبشيّ، واستمرّت الحياة الرّهبانيّة فيه إلى أن هَجر آخرُ رهبان الدّير المكانَ عامَ 1831م، وفي ثمانيّنيّات القرن الماضي انتقل إليه عددٌ من الرّهبان ليعود الدّير إلى وظيفته مجدّداً.
هذا، وقد شغل الدّير دوراً روحيّاً وثقافيّاً مُهِمّاً في تلك المنطقة المطلّة على البادية والفاصلة بين البدو النّاطقين بالعربيّة وسكّان الحواضر المتكلّمين بالسّريانيّة، وكذلك كان محطّةً يمرّ بها الحجّاج القادمون من بلاد ما بين النّهرين وشماليّ سُورِيَةَ قاصدين القدس.
المسح الأوّليّ للدّير ومحيطه:
ابتُدِئ المسح بعمليّة استطلاعٍ أوّليٍّ للمنطقة المحيطة بالدّير الّذي يُعدّ لاورا Laura أي تجمّعَ صوامعَ تتوسّطها كنيسةٌ مركزيّةٌ. وكما هو الحال في لاوراتِ الوديان شرقيَّ القدس، عاش الرّهبان في هذا الدّير حياةً رهبانيّةً تنسّكيّةً، إذ سكن الموحّدون داخل الجبل في صوامعَ منتشرةٍ قرب الوادي النّاتج عن مسار النّهر الجافّ الّذي شقّ طريقه ضمن الجبال، ويصِلُ دربٌ صغيرٌ بين تلك الصّوامع والمَضافة وباقي أماكن الخدمات المشتركة والكنيسة المركزيّة الّتي كان يجتمع فيها الرّهبان أيّام الأحد بهدف الصّلاة وجلب المؤن، وقد هُجرت الصّوامعُ معظمُها لاحقاً. عُثر في عمليّة المسح على ما يزيد عن الثّلاثين من هذه الصّوامع الّتي شكّلها الرّهبان كهوفاً ضمن الصّخور بأبعادٍ تقارب المترين في كلّ اتّجاهٍ، وكذلك عُثر على منشآتٍ أُخرى (مبانٍ، خزّاناتٍ).
التّصميم المعماريّ:
أُجرِيَت عام 2007 دراسةٌ معماريّةٌ للمباني الرّئيسة، وتوصّلت هذه الدّراسة إلى أنّ هذا الموقع قُطِنَ على مراحلَ، وافترضت أنّ المرحلة الأولى كانت في الفترة الرّومانيّة، استناداً إلى وجود منشأتين مشيّدتين بواسطة كتلٍ حجريّةٍ ضخمةٍ ذات ارتفاعٍ يتراوح بين 50 و60 سم وعرضٍ 80 سم، وعمقٍ 50 سم. أولى هاتين المنشأتين، برج المراقبة الرّومانيّ في أقصى الجنوب الّذي شُيّد بهدف مراقبة الطّريق بين دمشق وتدمر، وهو الطّريق الرّئيسيّ المؤدّي إلى الموقع من الشّرق، والّذي يشقّ الصّحراء الممتدّة أسفلَ الدّير شرقاً، أمّا المنشأة الأُخرى فتقع شمالاً وتمثّل الأساس الّذي بُني الدّير فوقه لاحقاً في أواخر القرن الرّابع الميلاديّ بعد دمار المنشأة الجنوبيّة بفعل هزّةٍ أرضيّةٍ
امتدّ تشييد مبنى الدّير الرّئيسيّ على حقباتٍ زمنيّةٍ عدّةٍ، ففي المرحلة الأولى شُيِّدت نواته الرّئيسيّة باستخدام الكتل الحجريّة النّاتجة عن تهدّم المنشآت الرّومانيّة إضافةً إلى كتلٍ حجريّةٍ أخرى، ويمكن الاستدلال من نوعيّة البناء وجودته إلى أنّه شُيِّد من قبل الرّهبان غير المختصّين بأعمال التّشييد. ويشبه تصميم هذا الدّير تصميم الأديرة الّتي وُجِدَت في القرن الخامس الميلاديّ، وعليه يُرجع الباحثون تاريخه لأواخر القرن الرّابع أوِ القرن الخامس الميلاديّ.
وفي المرحلة الثّانية أجرى بنّاؤون مختصّون أعمال توسعةٍ على الدّير مستخدمين حجارةً منتظمةً ومصقولةً من جوانبها جميعها. رصف البنّاؤون هذه الحجارة في مداميكَ منتظمةٍ، وشيّدوا كنيسة الدّير وِفْقَ نموذجِ بازِيلكا الّذي شاع في القرن السّادس الميلاديّ، وبطريقةٍ مشابهةٍ أعادوا بناء برج المراقبة. تتألّف الكنيسة من قسمين: الصّحنِ الرّئيسيّ وقدسِ الأقداس. أمّا الصّحن فيأخذ مسقطُه شكلَ مربّعٍ يقارب طولُ ضلعه 10 أمتارٍ، ويقسمُه صفّان من الأعمدة إلى ثلاثة أروقةٍ، ينيرُ أوسطَها ضوءُ الشّمس الهابط من نافذةٍ كبيرةٍ نسبيّاً في الجدار الشّرقيّ. وأمّا قدس الأقداس فيضمّ الهيكل والحَنِيَّةَ (المحرابَ)، ويفصله عن صحن الكنيسة حاجزٌ بُني قسمه السّفليّ من الحجر وقسمه العلويّ من الخشب. ويتوضّع داخلَ المحرابِ مذبحٌ حجريٌّ عليه بعض الزّخارف الهندسيّة البسيطة
أمّا المرحلة الثّالثة، فكانت أعمال البناء الرّئيسيّة فيها محاولةً لرفع الأضرار النّاتجة عن عوامل الطّبيعة والجغرافيا، إذ ظهر عديدٌ من التّصدّعات في أجزاءٍ عدّةٍ من المباني نتيجةَ حركةِ المباني الأفقيّةِ باتّجاهين معاً بسبب هزّةٍ أرضيّةٍ، ونتيجةً لذلك تحطّمت أجزاءٌ من المباني ليُعاد ترميمُها برصف حجارة الحطام على نحوٍ غير منتظمٍ. ويعود سبب كثرة حدوث الزّلازل في هذه المنطقة إلى وقوعها في منطقة صدع البحر الميّت Dead Sea Rift Zone. وتعود هذه المرحلة بالتّاريخ إلى منتصف القرن الحادي عشر للميلاد 1058م، وتشهد على ذلك بوضوحٍ كتاباتٌ منقوشةٌ على جدارَيِ الكنيسة الشّرقيّ والغربيّ، وكذلك تعود نقوش الصّلبان على الأعمدة والجدران إلى التّاريخ نفسه.
ووفقاً للحسابات التّاريخيّة الّتي تناولت الزّلازل الّتي ضربت الإقليم السّوريّ، فقد تعرّض الدّير في القرن الثّاني عشر لسلسةٍ من الهزّات الأرضيّة، ولتغطية العيوب النّاتجة عن هذه الزّلازل، أُصلِحت واجهات الكنيسة الدّاخليّة ورُمِّمت باستخدام الكلس والطّلاء لتَنتُج بذلك مجموعةٌ من أجمل اللّوحات الجداريّة وأشهرها في بلاد الشّام. وشُيِّدت في هذه المرحلة أيضاً شرفةٌ واسعةٌ تمتاز بإطلالةٍ بانوراميّةٍ أخّاذةٍ على الوادي أسفلَ الدّير
أُضيف فيما بعد طابقٌ آخرُ إلى البرج الجنوبيّ باستخدام حجارةٍ مشابهةٍ لتلك المستخدَمة في العمارة العسكريّة في القرن الثّالث عشر. أما الحقبات اللّاحقة فشهدت تشييد منشآتٍ إضافيّةٍ في موقع الدّير، حمل بعضها نقوشاً تعود للقرن الخامس عشر للميلاد. ولم يشهد الدّير في الفترات اللّاحقة أيّ أعمال تشييدٍ أو ترميمٍ، وسُجّل في لائحة المواقع الأثريّة الوطنيّة السّوريّة عام 1957م، ثمّ بدأت أعمال ترميم الموقع وإعادة تأهيله عام 1984م بمساهمة الدّولة السّوريّة ممثَّلةً بدائرة آثار ريف دمشق، والحكومة الإيطاليّة، والكنيسة المحليّة، وعددٍ من المتطوعيّن العرب والأوروبّيّين.
الرّسومات الجداريّة المزيّنةُ جدرانَ الكنيسة الدّاخليّة:
تكاد لا توجد زاويةٌ من هذه الجدران إلّا وتحوي رسماً جداريّاً، وتصوّر هذه الرّسوماتُ عدداً من قصص الكتاب المقدّس بدقّةٍ، وتضمّ مجموعةً من الكتابات العربيّة القديمة والسّريانيّة واليونانيّة على ثلاث طبقاتٍ: تعود رسوم الطّبقة الأولى -وهي الأقدم- إلى الفترة بين عامي 1058 و1095 للميلاد، وذلك حسب الكتابة الموجودة على الجدار الشّرقيّ للرّواق الشّماليّ. رسوم هذه الطّبقة مفعمةٌ بعناصر الحركة والحيويّة المعبّرة، وهي من الرّسوم النّادرة الّتي تدل على استمراريّة الفنّ الهيلينيّ (اليونانيّ) المسيحيّ السّوريّ. وما زالت رسوم هذه الطّبقة أغلبُها تحت الطّبقات الّتي تلتها.
أمّا رسوم الطّبقة الثّانية فتعود إلى نهاية القرن الحادي عشر، وتتميّز برهافة حسَّيِ الرّسّام الرّوحيّ والفنّي، وتعبّر عن تطوّر الفنّ البيزنطيّ في المنطقة. وأمّا الطّبقة الثّالثة فتحمل كتابةً عربيّةً دُّوِّنت بالكلس، وتؤرَّخ هذه الطّبقة بعام 1192م أو عام 1208م، وتكمن أهمّيّتها في أنّ رسومها موزَّعةٌ على جدران الكنيسة جميعها، وتكتسب هذه الرّسوم طابعاً سريانيّاً من اشتمالها على كتاباتٍ سريانيّةٍ ومن البساطة والعفويّة الّلتين تميّزانها والمعهودتين في الفنّ السّريانيّ، ويزيد وضوحَ طابعها هذا تنوّعُ موضوعاتها مقارنةً مع الأنماط البيزنطيّة الّتي دخلت مرحلة التّحدّد والثّبات في ذلك العصر.
ولقد خُطّط لإجراء مزيدٍ من عمليّات التّنقيب مستقبلاً الّتي ستشمل المنطقة تحت المذبح مباشرةً كونَها سرداباً على الأرجح، وستشمل أيضاً كهوف النّسّاك بعضَها ومنشآتٍ أخرى في الوادي، وكذلك سيُجرى مزيدٌ من المسوحات للمرتفعات حول الدّير باتّجاه الطّريق بين دمشق وتدمر. يجدر بالذّكر أنّ البحوث الأوّلية مُوِّلت من قِبَل مجلس كندا للبحوث والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة Social Sciences and Humanities Research Council of Canada، بالتّعاون مع المديريّة العامّة للآثار والمتاحف السّوريّة ومجتمع دير مار موسى الحبشيّ.