بعد كلّ الضجة التي أثارتها مقابلة السيد حسن نصر الله داخل الكيان الصهيوني وعلى مختلف وسائل إعلامه، توصل قادة هذا الكيان إلى الاستنتاج ذاته الذي كانوا قد توصّلوا إليه بعد عدوانهم على لبنان عام 2006، وهو أنّهم سوف يتعقبون السيد حسن نصر الله وقيادة حزب الله. ومع أنّ هذا مقرّر لديهم منذ عقود فإنّ إعادة التأكيد عليه يدلّ على أمرين اثنين.
أولاً: إفلاس هذا الكيان تجاه مبدأ المقاومين الحقيقيين وصدقهم وتصميمهم وأنّه لا مجال لديه سوى أن يحاول التخلص منهم لأنّ الصراع بينه وبينهم هو صراع وجود وليس صراع حدود.
وثانياً فإنّ هذا الإعلان يعيد تأكيد المؤكّد، والذي علينا التوقف عنده مليّاً، وهو أنّ هدف هذا الكيان ومنذ بدايات تشكّله، القضاء على القادة والنخب واستهدافهم وتصفيتهم جسدياً إذا أمكن، سواء كانت هذه النخب فلسطينية أم عربيّة أم عالميّة ذات توجهات جذرية ضد الاحتلال والاستيطان والإرهاب.
وقد نشر هذا الكيان كتاباً سرد فيه أسماء الشخصيات التي اغتالها على مدى عقود ليبرهن نجاحه في التخلص من المقاومين له.
وفي هذا السياق يمكن أن تندرج الأسماء التي يعتقد البعض أنه تم اغتيالها أو موتها بشكل غامض، من عبد الناصر إلى الملك فيصل إلى هواري بومدين الى هوغو شافيز إلى رئيس وزراء السويد أوليف بالمر إلى وزيرة خارجية السويد آن ليند، إلى مئات القادة الفلسطينيين الذين تشبثوا بالأرض والحقوق وأمضوا مسيرة نضالية مشرّفة في سبيل تحقيق أهدافهم النبيلة، إلى أسماء في بقاع أخرى من العالم لا نعرفها، إلى شباب وشابات المقاومة الواعدين في الضفة والقطاع والذين يظهرون ملكات قيادية وصلابة مبكّرة في مواجهة الاحتلال، والذين تتم تصفيتهم أو يُودعون في غياهب السجون لسنوات وسنوات.
ما أودّ استنتاجه ممّا تقدم ولو بعجالة، أن هذا الكيان المحتل يؤمن إيماناً عميقاً بالأهمية الاستثنائية للقيادات والنخب ويعتبرها الخصم الأخطر له، لذلك هو لا يوفّر طريقة للتخلص منها وإبطال أثرها على حركة المقاومة التي تستهدف تحرير الأرض والإنسان.
والنقطة التي أحاول التوصل إليها هنا، أنّ استراتيجية من يعملون على دحر هذا الكيان يجب أن تُبنى أولاً على فهم أسس استراتيجية العدو ووضع ما يتصدّى لها من استراتيجيات مقابلة.
وبهذا المعنى فإن خطة المقاومة والمقاومين يجب أن تؤكد أولاً على صنع القادة وعناصر النخبة والحفاظ عليهم وضمان أمنهم وسلامتهم في وجه التحديات التي تواجه قضاياهم. ومن هذا المنظور يجب أن نفهم الضجة حول قائد ما أو شخصية ما، والأهمية التي يولونها لدور مثل هذا القائد، ولذلك فإن المستهدف في هذه الحالة ليس شخصاً كما تردّد وسائل الإعلام الغربية وعلى مدى عقود، بل المستهدف هو حالة مقاومة تشكل أزمة وجودية لأجندات الاحتلال.
كما أنّ القتل بدم بارد الذي يمارسه هذا الكيان ومنذ عقود أيضاً، ضدّ الشباب والشابات الأبطال في الأرض المحتلة ليس قتلاً عشوائياً أبدًا، إنما هو قتل مدروس ومخطط له يستهدف قادة محتملين وممكنين، وكذلك فإنّ من يتم إيداعه في غياهب سجون الاحتلال، غالباً ما يكون ممّن يحملون في عقلهم وأفكارهم وقلوبهم قيادات كامنة تنتظر أن تأخذ دورها في نضالها الوطني المشروع.
مقابل هذا المسار الارهابي للكيان المغتصب، لابدّ وأن يتمّ تشكيل رؤى واستراتيجيات مقابلة تواجه رؤاه واستراتيجياته في الفكر والتخطيط والعمل السياسي والثقافي والميداني، وما تمّ توضيحه هنا على مستوى الكيان ينطبق في معظمه على مستوى الصراع الدولي الذي يشهده عالم اليوم، إذ كيف يمكن لدولة عضو في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أن تنتهك سيادة وسلامة دولة أخرى مستقلّة وعضو في الأمم المتحدة، وتقوم بتنصيب رئيس لها بوجود رئيس منتخب وتدعو الجيش إلى التمرّد والعصيان، وتعيّن مبعوثين لها في انتهاك صارخ لكلّ القوانين والمواثيق والأعراف الدولية؟
إن دلّ هذا على شيء فهو يدلّ أيضاً على منهجية متّبعة في إزاحة قادة وتنصيب آخرين مكانهم، ومن شروط من يتمّ تنصيبه أن يكون أداة طيّعة بيد أسياده وأن يكون ولاؤه لهم قبل ولائه لأرضه وشعبه وبلاده، وأن يمهّد لأسياده نهب ثروات شعبه واستعباده.
وقد يكون هذا هو المفهوم الأدقّ "للديمقراطية" التي يدّعون، أي ان "الديمقراطية الليبرالية" التي يسعون إلى نشرها في أجزاء مختلفة من العالم هي إعادة ترتيب أوضاع البلدان المستهدفة على طريقتهم. وكي تكون مستعبدة تماماً يتحكمون بها كيف يشاؤون فينهبون ثرواتها ،وينشرون فيها الفساد ويبقون سكان البلاد في حالة من الفقر والجهل المستديمين، لذلك فإنّ أيّ ديمقراطية أخرى تنطلق من واقع البلد المستهدف وتعتمد على ثقافته الخاصة به وتعمل على إرساء حقوق شعبه بأرضه وتمتعه بثرواته، وترفض أيّ تدخل أجنبي بشؤونه الداخلية لا يتمّ الاعتراف بها من الأنظمة الغربيّة التي تحرّكها بالعمق الصهيونية العالمية، على أنّها ديمقراطية ولا يتمّ التعامل معها على أنّها ذات صلة أبداً بالديمقراطية الغربية الليبرالية التي يدّعون ويسعون الى تعميمها حيث يشاؤون.
ومن نافل القول إن هذه الديمقراطية الليبرالية في البلدان الغربية مختلفة جذرياً عمّا يسمّونه الديمقراطية التي يصدّرونها الى البلدان الأخرى تماماً كما يختلف الحكم والمؤسسات في الولايات المتحدة عن الحكم والمؤسسات التي عملوا على إنتاجها في العراق مثلاً أو في ليبيا أو أفغانستان؛ وكما يحاولون اليوم إنتاجها أيضاً في فنزويلا كي يُدخلوا هذا البلد الغني والمقاوم في فتنة داخلية وصراع يستنزف طاقاته ويسمح لهم بنهب معظمها في إطار الفوضى الخلاقة التي يدأبون على خلقها.
إذاً علينا نحن أبناء هذه البلاد التي تحاول أن تصنع تاريخها وتكتب قدرها بأقلام أبنائها، أن نفهم أولاً رؤاهم وخططهم واستراتيجياتهم التي تستهدفنا وأن نميّز أشدّ التمييز بين مصطلحاتهم التي يستخدمونها في إطار دولهم و شعوبهم وبين مغزى هذه المصطلحات ومراميها حين يستخدموها بأي شيء يتعلق بحاضر أو مستقبل بلداننا.
كما يوجب علينا هذا الفهم أن نبني رؤانا وخططنا واستراتيجياتنا بما يقاوم خططهم وبما يضمن تعزيز صلابة بلداننا، وسواء سمّينا شكل الحكم لدينا ديمقراطياً أو اشتراكياً أو أيّ اسم آخر فالمهم هو استقلاليته في القرار الذي يضمن كرامة البلدان والشعوب.
إلى أن نتمكن من إرساء اللغة والمصطلحات والتاريخ الذي يعبّر تعبيراً حقيقياً عن شعوبنا وطموحاتها وحقوقها، لابدّ من أن نقرأ ما يكتبون وما يفعلون بقضايانا قراءة المتبصّر العارف، وليس قراءة الذين ينظرون وهم لا يبصرون.
الدكتورة بثينة شعبان