سئل الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل مرات عدة، هل أنت مفكر ثورة تموز/ يوليو 1952؟ فكان دائماً يجيب: جمال حمدان هو مفكر ثورة يوليو.
أول مرة وقع نظري على إسم صاحب "شخصية مصر: عبقرية المكان" الدكتور جمال حمدان كانت في عدوان تموز/ يوليو 1993 على لبنان، فقد كنت أتّبع ما تكتبه الصحف العربية عن هذا الاعتداء الصهيوني، وبالأخصّ منها أهم المقالات الأسبوعية التي كان ينشرها بعض الصحافيين والمفكّرين والمؤرّخين العرب في صفحات الرأي.
كان جيل الشباب في تسعينات القرن العشرين حتى مطلع الألفية يتابع بشكلٍ دؤوبٍ مقالات فهمي هويدي والمفكّر الماركسي والمُتخصِّص في شؤون الشرق الأقصى أنور عبد الملك والدكتور سيِّد ياسين وجلال أمين وغيرهم في الصحف المصرية والخليجية.
في تلك الحقبة كان مقال الدكتور أحمد صدقي الدجاني من المقالات التي تفتح حواراً ونقاشاً فور نشرها. وصودف يومها أن نشر الدجاني مقاله النصف شهري في صحيفة الأهرام مُتضمِّناً تحليله لذلك العدوان على لبنان عام 1993، مُستنداً إلى جمال حمدان، صاحب كتاب "إستراتيجية الإستعمار والتحرير" ورؤيته لـ"إسرائيل".
قد يكون جمال حمدان الشخصية الأهم في العالم العربي التي بَحَثت وحَلَّلت "إسرائيل" ومستقبلها وانهيارها. فقد أكد في كتابه "اليهود أنثروبولوجيًّا"، الصادر فى عام 1967، بالأدلة العلمية أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمى هؤلاء إلى إمبراطورية "الخزر التترية" التى قامت بين "بحر قزوين" و"البحر الأسود"، واعتنقوا اليهودية فى القرن الثامن الميلادي، وهو ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات "آرثر كويستلر"، مؤلف كتاب "القبيلة الثالثة عشرة" الذي صدر عام 1976.
ومن هنا تعتقد عائلة حمدان وأصدقاؤه أن جهاز الموساد الإسرائيلي هو مَن اغتاله في منزله.
ولاشك بأن حمدان إستفاد جداً من إختصاصه في علم الجغرافيا الذي درسه في جامعات بريطانيا، ليُخرج لنا سفره الأهم عربياً وعالماً "شخصية مصر: عبقرية المكان".
ترك حمدان قبل رحيله في 17 نيسان/ إبريل 1993 العديد من المؤلفات والأبحاث والمقالات الإستراتيجية. إلا أننا اخترنا أن نتوقَّف عند الكتاب الذي أعدَّه وقدَّمه أخوه الراحل الذي كان يعمل أستاذاً في جامعات سويسرا العالم الدكتور عبد الحميد صالح حمدان بعنوان "العلاَّمة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكَّراته الخاصة" في ذكرى رحيله عام 2010 والصادر عن "عالم الكتب" في القاهرة.
يتناول حمدان في هذه المذكرات قضايا عديدة منها علاقة بلاده بالكيان الإسرائيلي، والعالم العربي وجماعات الإسلام السياسي. ولكنه بدا متشائماً من أول مذكراته إلى اَخرها بأن "مستقبل مصر أسود"، وأن "الخيار أمام البلاد لم يعد بين السيِّء والأسوأ بل بين الأسوأ والأكثر سوءاً".
يقول حمدان في بداية مذكَّراته "مصر هي مصر" مقولة متعدِّدة الأوجه. ويضيف حجم مصر الفعلي الحقيقي اليوم هو ضعف حجمها منذ حرب حزيران - يونيو 1967 واتفاقية كامب دايفيد عام 1979، ولكن وزنها النسبي بين العرب ومع العالم أصبح نصف وزنها حينئذ.
ويستأنف حمدان رؤيته بقوله: إن كل بحث في العالم العربي وخارجه، يؤكّد حقيقة محزنة واحدة وهي أن مصر لم تعد وحيدة على القمّة في العالم العربي، فقد أصبح لها منافسون عديدون ومنهم أنداد أو مدَّعون.
كل شيء في مصر وحول مصر يتغيَّر الاَن ولكن وأسفاه يتغيَّر نحو الأسوأ: في مياه النيل، في العالم العربي والشرق الأوسط والعالم.
ويُكمِل حمدان مُطالعته عن مستقبل مصر الأسود بقوله: فقدَت مصر زعامتها في العالم العربي ومكانتها القديمة. كانت مصر زعيمة العرب مالياً وأدبياً واقتصادياً وسياسياً. ولكن بعد أن فقدت مصر هذه الزعامة، فإننا لا نجد وريثاً لها بوضوح. لماذا؟ لأن وراثة مصر كانت أكبر من أية دولة عربية أخرى مُنافِسة. والذي حدث أن قسّمت وراثة مصر بين دولتين أو أكثر. فانتقلت الزعامة الإقتصادية المادية إلى الخليج (البترول)، والسياسية إلى العراق.
الفرق بين مصر وبعض الدول المُحيطة – حسبما يرى حمدان – أن الأخيرة أصبح عندها فائض قوّة يفيض خارج حدودها أطماعاً وطموحات، بينما أصبح عند مصر "فائض أزمة" تغرق بها داخل حدودها وتلك هي المشكلة.
فقدت مصر ربع وزنها وثقله ودورها ومجدها السياحي والتاريخي سنة 1948 بقيام "إسرائيل". وفقدت نصف وزنها بهزيمة 1967، ثم فقدت وزنها كله في كامب دايفيد.
ويقول حمدان عن انحدار مصر إنها "تتدحرج الاَن بانتظام وبغير انتظام إلى أسفل، لأول مرة في التاريخ يتغيَّر مكان مصر في العالم ومكانتها إلى الأسفل، فتجد نفسها لأول مرة في وضعٍ من العالم لم يسبق من قبل، وهي أنها كيان مُنكمِش في عالمٍ مُتمدِّد".
ويعتبر حمدان أن مصر الاَن تهرب إلى الأمام. هذا تكتيكها بل هو استراتيجية العجز والسقوط نتيجة لها وسبب. هربت من فلسطين إلى الخليج، من التحرير إلى أمن الخليج. مصر الاَن تهرب من الخليج إلى الجمهوريات الإسلامية في وسط اَسيا. كل ذلك لتخفي عارها وعجزها.
يعتقد الكاتب أن عبد الناصر هو أول حاكِم أو زعيم مصري يكتشف جوهر شخصية مصر السياسية، وقد وضع يده على صيغة السياسة الخارجية لمصر كما ينبغي في التخطيط السياسي الأمثل. لم يخترعها بالطبع ولا كان أول مَن شخصّها وتعرَّف عليها نظرياً... ولكنه كان أول من بلورها فكرياً إلى حدٍ ما ثم طبَّقها عملياً إلى أقصى حد، ونقلها من الفكر السياسي أو السياسية النظرية إلى التطبيق السياسي، ومن هنا هو أول – وللأسف اَخر – حاكِم أو زعيم مصري"جغرافي"، عرف وطبَّق حغرافية مصر السياسية كما ينبغي أن تكون. ولا ننسى أن دوائره الثلاث هي صيغة جغرافية تصوغ خريطة جيوبوليتيكية أصيلة.
عبد الناصر في جوهره هو مُحرِّر مسودة للمستقبل. بروفة، تجربة، بروفة...بروتوتيب (نموذج) للمستقبل، مجرَّد بداية لا نهاية.
ويُشدِّد حمدان على أن الناصرية هي الإنتماء العلمي لمصر فإذا روَّضتها روَّضت الإنتماء لمصر أو عاديت مصر. وهذا مُتاح فقط لغير المصري، ولكنه من المصري خيانة سافِرة للوطن. الناصرية هي الوطنية العملية السويّة، هي الوطنية الحميدة في التطبيق، هي أصول جغرافيا مصر السياسية في التطبيق العملي القديم.
ويستطرد حمدان بقوله: "مشكلة مصر لا حَصْرَ لها في الداخل والخارج، ولكن مشكلة واحدة ستُحدِّد مصير مصر في النهاية. وهي نفسها التي حدَّدت مصير عبد الناصر من قبل. فكما قلنا عن عبد الناصر سيبقى أو يسقط على أساس قضية واحدة هي فلسطين ، فكذلك ستبقى مصر أو تسقط إلى الأبد على نفس القضية، ما عدا ذلك، فدجل مقصود".
باختصار وخلاصة نهائية، إن الناصرية هي المصرية، كما ينبغي أن تكون المصرية. أنت مصري إذن أنت ناصري، ولو كره الكافرون، إلا إذا كنت غير مصري إو ضد – مصري.
ورغم مرور 25 عاماً على رحيل حمدان، لا تزال مؤلفاته تشكّل مرجعية أساسية في علم الجغرافيا السياسية. وقد ترك العديد من المؤلفات منها: (دراسات في العالم العربي)، (دراسة في جغرافيا المدن)، (المدينة العربية)، (بترول العرب)، (الاستعمار والتحرير في العالم العربي)، (أفريقيا الجديدة)ـ (استراتيجية الاستعمار والتحرير)، (اليهود أنثروبولوجيا)، و(6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية) وهو قراءة لما بعد حرب أكتوبر - تشرين الاول 1973 التي تمكن فيها الجيش المصري من عبور قناة السويس واستعادة شريط موازٍ لها في شبه جزيرة سيناء التي احتلتها "إسرائيل" في حرب يونيو - حزيران 1967.