أنت إ ذاً حيث للتاريخ صوت، وللتراب أريج الحضارات، فيها تتزاحم عندك ذكريات الدأب ، الابتكارات الإنساني المبدع كله منذ كان الإنسان: ماري، إيبلا، أوغاريت قادش، عمريت، أفاميا، دورا أوروبوس، تدمر ، بصرى، شهبا، الرصافة... هذا إذا لم تذكر فقط الأسماء اللامعة: دمشق وحلب وحماه واللاذقية...
فعلى الأرض ال
سورية ولدت أروع الحضارات، وتفاعلت أعظم المدنيات وأبدع الإنسان المنجزات التي لاتزال ترفل البشرية في نعمائها حتى اليوم.
قصة الزراعة بدأت هنا منذ أكثر من عشرة آلاف عام ، وبدأ الاستقرار والارتباط بالأرض ، ثم بدأ الإنسان يبني المساكن ليتفيأ بها بدل الكهوف ، وبدأ يعي ذاته ويناجي السماء ويتمتم يالترانيم الأسطورية الأولى.
هذه الفترة البعيدة من حياة الإنسانية لازالت بقاياها متناثرة في أكثر من مكان في
سورية : في المريبط، حيث سد الفرات الآن وفي يبرود وعلى ضفاف الأنهار.
هنا في
سورية أيضاً ما لبث الإنسان أن أهدى البشرية إنجازاً حضارياً كبيراً حيث اكتشف النحاس وطوعه وابتدع خليطة البرونز.
حضارة المعدن هذه نشأت في( تل حلف ) على ضفاف الخابور. ومن قبل ذلك كان ابتكار الصلصال وجعاه خزفاً وزخارف وتتالت الإنجازات والإبداعات منذ الألف الثالثة قبل الميلاد: في مملكة (ماري) على الفرات كانت قصور ورسوم وكان ازدهار تجاري وثقافي مشهودان.
مملكة (أوغاريت) على الساحل السورية قدمت للإنسانية ابتكارها المعجز: الأبجدية الأولى في العالم،
أما في مملكة (إيبلا) فقد اكتشفت في قصرها الملكي أروع وأضخم مكتبة وثائقية تنظم أمور الإدارة والتجارة والدبلوماسية والصناعة وعلاقات الحرب والسلم مع الممالك الاخرى، إذ أن سلطان (ايبلا) ونفوذها امتدا من جبال الأناضول شمالاً حتى سيناء جنوباً
ومملكة (آكاد) شرقاً، وكانت ذات شهرة عريضة بصناعتين هامتين: المنسوجات الحريرية الموشاة بخيوط الذهب، والخشب المحفور والمطعم بالعاج والصدف....
ولاتزال
سورية حتى اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة آلاف عام، تشتهر بهاتين الصناعتين. فالبروكار ال
سورية الحريري ذو الخيوط الذهبية فريد من نوعه في العالم، والموزاييك السوري الخشبي المطعم بالصدف والعاج هو أجمل الهدايا الناس في كل مكان.
على الأرض ال
سورية توالت
الحضارات والابتكارات ووفي الوقت نفسه توالت الزحوف البشرية عليها والتي انحدرت إما من الشمال – من جبال الأناضول أو من البحر.. طمعاً بثرواتها وبمركزها الاستراتيجي الفريد فقد كانت ملتقى العالم القديم. إلى أن كل هذه الزحوف البشرية ، العسكرية في غالبيتها لم تغير من طبع سكانها الأصليين الذين جاؤوا إليها تباعاً منذ القرون الاولى من الجنوب، من الجزيرة العربية وتوطنوا في داخلها على امتداد أرضها ، من أقصى الجزيرة وبين النهرين حتى جنوب فلسطين وأرض سيناء، وكانوا يعرفون مرة بالأكاديين، ومرة بالعموريين ( الألف الثالثة ق.م). وأخرى بالكنعانيين والفينيقيين ( سكان الساحل) وتارة بالآراميين( سكان المناطق العليا) وأخرى بالغساسنة والأنباط( آخر الهجرات). فهذه الهجرات المتتالية حفظت الطابع العربي لسكان
سورية منذ فجر التاريخ، ولذلك استطاع ان يصمد أمام كل الزحوف البشرية التي غزت
سورية من حثيين وفرس ويونان ورومان.
وحين أتى الفتح العربي الاسلامي عام (626) أكد هوية
سورية العربية وجلا صدا الغزوات عنها وأعاد إلى الأرض جوهرها وأصالتها.
توصف
سورية دائماً بأنها (خلاصة لتاريخ العالم) فما من حضارة كبرى في مسيرة الإنسانية إلا وتفاعلت على أرضها أو انبثقت في ثراها. المعرفة ، الابتكارات ، تصاعد النوع البشري، الاكتشافات ، الديانات... ولدت أو توالدت في سورية، وما أرضها إلا تراكم حقيقي لهذه الملاحم واحدة فوق واحدة منذ أكثر من ثمانية آلاف عام.
فمنذ الألف الثالث قبل الميلاد ربطت
سورية بين الرافدين ووادي النيل، ومنذ الألف الأولى قبل الميلاد كانت
سورية تشكل صلة الوصل بين عالم البحر الابيض المتوسط وبين الشرق الأقصى.
وهذا الموقع الفريد جعل لها شأناً استراتيجياً باعتبار أن لها شأناً استراتيجياً باعتبار أنها ملتقى لقارات ثلاث( آسيا، إفريقيا، أوربا) وملتقى للطرق العالمية ، وعبر أراضيها كان يمر طريق الحرير القادم من أقاصي الصين إذ كانت محطته ال
سورية الأولى دورا أوروبس( الصالحية) ثم تدمر وحمص إلى أن يصل إلى مرافئ البحر الأبيض، وفي العهدين اليوناني والروماني كانت أرض
سورية من أهم مراكز الإشعاع والعطاء ، بل كان العديد من أباطرة روما سوريين، من حمص ومن شهبا. ومن
سورية انطلقت اللغة الفينيقية التي بقيت طويلاً لغة التجارة والغدارة والديبلوماسية في العالم القديم كما كانت أرضها من المنطلقات الأولى للمسيحية والإسلام وارتبطت بذكرياتهما وتقاليدهما ومقدساتهما، فأنطاكية كانت نهد المجتمع المسيحي في القرن الأول ، ومن دمشق ومن طريقها المستقيم بدأ بولس الرسول رحلة الإيمان ، ولاتزال إلى اليوم لغة السيد المسيح ( الآرامية) يتحدث بها الناس في معلولا وجبعدين.
وما إن بدأت الحضارة العربية الإسلامية تنشر ظلالها حتى أصبحت
سورية بمثابة قلبها الخافق ومركز إشعاعها الرئيسي بعد أن صارت دمشق عاصمة للدولة الأموية المزدهرة. ولاتزال
سورية حتى اليوم تحتفظ بطابعها الاصيل في لغة شعبها وطراز حياتها ونهج فكرها.
ولا عجب بعد هذا كله أن يكون كل إنسان في العالم مديناً بفكره وفنه وإنجازاته إلى هذه الأرض المهد التي ترعرعت عليها
الحضارات الإنسانية وأن يشعر بانتمائه إليها كما إلى وطنه حتى قيل بحق لكل مثقف وطنان: بلاده وسورية.