قدْ يكونُ الأمرُ أشبهَ بمنْ يدخُلُ إلى عالمٍ روائيٍّ نبتَ بين أمداءِ أرضٍ مقدّسةٍ، خطَّهُ حبرٌ يموجُ مراتٍ كثيرةً بالحزنِ وَالألمِ على مصيرِ مدينةٍ تكسّرتْ أنيابُ التاريخِ على عتباتِ أبوابها، مدغوماً مراتٍ أكثرَ بالسُّخطِ إزاءِ سدنةِ الزيفِ والنّفاق الذينَ يرفلونَ بحنوٍّ بين أحضانها ظاهراً، فيما يقتاتونَ باطناً على ملحِ دمها كما الطّفيليّات، لتبدو مدينةُ حلب؛ البطلةَ الأثيرة في رواية "حبس الدّم" للدكتور نضال الصالح الصادرة في دمشق عن دار دلمون الجديدة عام 2019، مثل جسد مليكةٍ غارقٍ في غيبوبةٍ سحرية، أو تعويذةِ موتٍ أٌلقيت من عالمٍ سفليٍّ ممرّدٍ بالشرّ متوعّداً بسفكِ الدّم. تَجيء الرواية عنها، مثل مسحةِ رسولٍ كريمٍ، تُنهضُ جسدَ المدينة المنهك من سباتٍ آن لهُ أن ينتهي، عمدَ الأديب خلالها إلى النكوص والعودة إلى تاريخ المدينة الحافل، حتى ما قبل فترة حكم الحثيين لها، وجعلَ من الحفر في عمقها التاريخي ثيمةً أساسية لنصٍّ يُكثّف الأزمنة، ويستشهدُ بكبار علمائها وكُتّابها مثل: عبد الفتاح قلعة جي، والعجيلي، وكامل الغزي والسهروردي، وصولاً إلى علاَّمتها الكبير، والشخصية التي تبدو الرئيسة في الرواية، شخصية العلامة الحلبي الراحل؛ خير الدين الأسديّ.
عن الرواية:
حَبسُ الدم، سجنٌ باردٌ يقع إلى يمين الطريق المؤدي إلى قلعة حلب، استُخدم سابقاً في العهد البيزنطي كخزّان مياهٍ، إلى أن حوَلهُ الفرنسيون إلى سجنٍ بارد تنزّ الرطوبة من جدرانهِ، ويُمنع نزلاؤهُ عن الطعام والشراب، فيموتون برداً وعطشاً، ولذلك يسمى حبس الدم.
تتناولُ الروايةُ ما كابدتهُ مدينة حلب، شمال سوريا، عبر فتراتٍ تاريخيةٍ متلاحقةٍ، أبرزها مرحلة القهر الذي عاناهُ سكانها خلال سيطرة المسلحين على أحيائها الشرقية في فترة الحرب الخبيثةِ التي اشتعل فتيلها في آذار - مارس 2011، من دون أن يغفلَ الكاتب عن هتكِ ذكرِ غيلانِ الحروب، وسفّاحي الجيوش التي نهبتْ تراثها وهدّمتْ تاريخها وإرثها عبر الأزمنة المتلاحقة؛ بادئاً بنارام سين، الحثيّ الذي لم يترك من حلبَ حجراً على قيد الحياة، إلى سيول الدم التي تدفقت فيها على يدِ قادة روما، وتخريب أسوارها وما مُنيتْ به من زلازل لم تُبقِ من أوابدها الثمينة إلا القليل، وصولاً إلى همجية المغول ونهب السلاطين العثمانيين وأحفادهم لكنوزها، حتى قيام الجنرال الفرنسي غورو بإمطار قلاعها وأبنائها بجحيم العقاب والقصاص لوقوفها إلى جانب ثوار الثورة آنذاك، منتهياً بالحرب الأخيرة التي نزَّتْ عن فاسدينَ وأنانيين وأقزام انتعلوا درب الثورة بعد أن كانوا ضيوفاً على موائد النظام، لا لأجل ما ادعوه من غاياتٍ نبيلةٍ كشفها تقلبهم بين أحضان الأجهزة الأمنية تارةً، وبين لعنة الانتماء لثورةٍ نتج عنها القتل والتكفير وكوارث دمّرت قيماً اجتماعيةً وَأخلاقية وإنسانية.
هي الرواية الثانية للأديب الصالح، والكتاب الرابع والعشرون. يُميزُ فيها بين الوطن والدولة، والحكومة والنظام، بين الثائر لحقٍّ وآخر ثار لسلب حقوقٍ، وكسب مغانمَ ثوريةً انتهجت بفوضويةٍ جنونيةٍ جمعَ اليمين واليسار، الظلاميّ والتنويريّ، والقاتل معَ القتيل!
شخصياتُ الرّواية:
تبدو مدينة حلب المعشوقة الأولى والأخيرة في قلب الكاتب الذي يعمدُ بأسلوبه السرديّ الغنيّ، ومفرداته الثرّة لحياكةِ روايةٍ تستحضر روح علّامة كبير من علماء المدينة، والذي بذل حياته لأجل حلب، فقابلهُ الجحود، ونالهُ النكران، واغتالَ ذكر العلاّمة الكبير؛ خير الدين الأسدي، كما اغتيلَ من قبل ذِكر المتصوف السهروردي. كثيرون زعموا أنهم أصدقاءٌ مقربون، ادّعوا تردّدهم الدائم عليه حتى في المبرة قبل يوم واحد من وفاته، وراحوا يمتطون عظمةَ سيرتهِ ويتسابقون للتغني بمآثرهِ ورثائه، حتى صار يكتب عنه كل من عرفهُ ومن لم يعرفهُ، ليقتاتَ على مائدة عبقريتهِ.
العلامةُ الأسدي، كما جاء في "حبس الدم" التي توثّق مراحل حياته، ظُلمَ حتى في مماته، وطريقة دفنهِ، وحفلة تأبينه التي جاءت متأخرةً في يوم عطلةٍ رسميةٍ بين جدران دار الكتب الوطنية التي تضمّ مكتبتهُ المنهوبة منه.
وإلى جانب روح العلامة الراحل، وفي مقبرة الصالحين، حيث تلتقي روحه مع روح الشهيدٍ؛ الدكتور فهد، الذي يظهر كشهيدٍ وقعَ بنيران رصاصٍ أعمى يُمطر أحياء المدينة من حين إلى آخر، وعلى ثرى المقبرة التي دهمها المسلحون مراتٍ عدة، مثلما هدم فيها من قبل وحوش التاريخ مشهد ابراهيم الخليل وصخرته، مضافاً لها مقابر جماعية للصالحين والعلماء كمثل الأسدي، ممن نذروا أنفسهم وحياتهم لمعشوقتهم حلب ولوطنهم الأكبر سوريا.
يدير المقبرةَ أبو محمود، ومن خلالهِ يعود الكاتب مستحضراً ماضياً بعيداً، مغلّفاً بالظلم والإهمال، يكتشفه حارس المقبرة خلال سماعه للأحاديث التي تجري بين روحي الأسدي والدكتور فهد، فيصغي لجدالاتهم الهازئة وسخريتهم من الموت والإرهابيين التكفيريين الذين حوَلوا حياة السكان إلى جحيم، بعد أن نشروا فيها القتل والترهيب والخطف، حتى كادت تنعدم فيها وتنقطع سبل المعيشة والحياة.
ومن خلال المراسلاتِ الالكترونية التي تبدو السبيل الوحيد للتواصل وبث الحياة في أرواح الباقين من أهالي المدينة، وعبر مغامرةٍ سرديةٍ تظهر شخصية "غسان" الذي تنتهي الرواية بوقوعه فريسة المجهول، إثر مخاطرتهِ في الذهاب إلى حي باب الأحمر ليطمئنّ على أمه التي بقيت في بيت العائلة، من دون أن يكمل روايته عن شيخ الطرب "صيري المدلل".
و"فاضل" الذي يموت قهراً قبل أن يكمل روايته عن الأسدي، برغم امتلاكه لمخطوطاتٍ سرية عن الحقائق والخفايا التي تتعلق بحياة العلام الكبير.
إلى شخصية الدكتورة "وصال" التي راحت تتنقّل وتهوي، كمن يقع في حفرة ويسقط في أخرى، من مثقفة شيوعية إلى وهابية تكفيرية، وصال التي رحلت، كمثل كثير من مثقفي الثورة، من أحضان النظام إلى نعيم "ماما ميركل" في ألمانيا بعد أن غُسل دماغها وغيّرت توجهها الفكري والسياسي.
ليعود الكاتب بين الحين والآخر إلى الأسدي، والحال المفزعة التي آلَ إليها جثمانهُ بعد أن ضاعَ في مقبرة الصالحين، شارحاً معاناته في آخر سنيّ عمره في المبرة، حيث توفي وحيداً، بلا قريب أو صديقٍ، ووُري جثمانه بصمتٍ، بلا هويةٍ، وربما دفنت تحت التراب بلا صلاة تُذكر!.
الخاتمة:
عبر المقتلة، والجائحة التي تغتال وجه المدينة، يبث الكاتب حزنه وألمهُ عبر الكتابة، التي لا ملاذَ له إلّاها، يبددُ بها ما استطاع من وطأة الموت المحدق من كل جانب، ليس موت الأجساد فقط، بل يبدد بروايته الموت بمعناه المجازي، وهو موت القيم، وفناء الأخلاق، وفقدان المبادئ التي تعصفُ بها رياحُ هوجٌ، لتكون الكتابة، والكتابة فقط الوطن الوحيد الذي يتحقق له العيش فيه.
رواية "حبس الدم" تدفعُ، كمثل كثيرٍ من الأعمال الأدبية العميقة، لرصف التساؤلات، وإثارة الراكد من ركام المدفون، تدفع الجميع لتحمّل المسؤوليةَ والتساؤل، كشعبٍ وحكومة، كمثقفين وكُتّاب ومعنيينَ بالوطن وهمّ الوطن.
يا تُرى، لو سأَلت الأجيال القادمة عن إرث "الأسديّ"؟ أو لو جاءنا باحثٌ أو مستشرقُ أوروبيّ بعد عشرات السنين باحثاً عن مرقد الأسدي وتراثه وسيرتهِ ومراجعه وموسوعاته، ماذا سيكون الجواب؟
الرواية تقع في 198 صفحة من القطع الكبير، وهي الثانية للدكتور الصالح إلى جانب 23 كتاباً في مختلف الأشكال الأدبية والدراسات في الرواية العربية وغيرها.