ويقول إرنست غومبريتش في كتابه قصة الفن "لا نعرف كيف بدأ الفن، مثلما لا نعرف كيف نشأت اللغة". ويعيدنا هذا التساؤل إلى سنوات ما قبل التاريخ، حيث لم يكن هناك خط أو لون أو بناء إلا لغرض ما، لم يفكر أصحاب الرسوم فيها كأعمال فنية، بل على أنها أشياء لها وظيفة محددة، ولن نستطيع أن ندرك ونحلل تلك الرسوم، لو لم نعرف طرق تفكير تلك الشعوب البدائية أو أهدافها من الرسوم.
كانت الرسوم والصور في البداية تصنع لتحميهم من قوى الطبيعة السحرية والحيوانات المفترسة، حيث كانوا يعتقدون أنهم بالسيطرة على صورة الحيوان المرسومة على الجدار، أو رشقها بالأسهم والرماح؛ يمكنهم السيطرة عليه في الواقع، بالإضافة إلى استخدام الرسوم في أعمال السحر والشعوذة، الأمر الذي ما زال قائما حتى الآن في مجتمعات الشعوب البدائية.
كل هذه الأفكار تساعدنا في فهم أقدم الرسوم التي انحدرت إلينا من الماضي، والتي اكتشفت لأول مرة على جدران وأسقف الكهوف في إسبانيا وفرنسا، وقد رسمها الإنسان الأول في العصر الجليدي بين عامي 15000 و10000 قبل الميلاد.
الرسم للعبادة والتوثيق
رسم المصريون القدماء بدءا من عام 3000 قبل الميلاد على جدران معابدهم ومقابرهم، لتسجيل الحياة اليومية، وتوثيق الانتصارات والأحداث المهمة اجتماعيا وعسكريا، ولم يتعلق الأمر فقط بالتزيين أو التوثيق، ففي الحضارة المصرية القديمة كان يتعلق بديمومة الحياة واستمرارها بعد الموت في المعتقدات المصرية القديمة.
استُخدم الرسم في الحضارة اليونانية والرومانية القديمة استخدامات قريبة من التي في الحضارة المصرية القديمة، لكنهم حاولوا الوصول إلى نسب الكمال الإنساني والقواعد المقدسة، نظرا لأن الرسوم كانت -في الأساس- لأغراض دينية، سواء لتمجيد الآلهة أو تزيين جدران المعابد، لكن مع اهتمام أكبر بالحياة، وليس بما وراء الحياة كما كان في الفن المصري القديم.
في العصور الوسطى بين عامي 400 و1400 استعمل الرسم لتمجيد الإله وتعليم قواعد الدين، سواء على جدران الكنائس أو كرسوم توضيحية لمعاني الكتاب المقدس، وكتب الصلاة الخاصة بالرهبان، وكان الرسم الوسيلة الأكثر بساطة للتواصل مع العامة، بالإضافة إلى ذلك استعمل الرسم لتوثيق الأزياء والنباتات والحيوانات والبيئة المحيطة بالرسام في كتب نموذجية، ثم قام الرسامون باستعمال تلك الكتب في رسومهم بدل العمل مباشرة من النماذج الحية أو الطبيعة.
عصر النهضة وما بعده
بدأ الرسم الحديث بأوروبا في القرن 14 الميلادي في إيطاليا، وزاد إنتاج الرسوم بشكل كبير، لسهولة الحصول على الورق، وأصبح الرسم أساس كل الفنون، سواء النحت أو العمارة أو التصوير، واستعمل الرسم أيضا كأداة لدراسة الطبيعة التي زادت أهميتها في ذلك الوقت؛ نظرا لمحاولات استكشاف الكون والطبيعة في علوم متعددة، مثل الفلك والفيزياء، وكان الرسم يسير بالتوازي مع تلك العلوم في محاولات استكشاف الطبيعة وتخليدها.
زادت الحاجة إلى الرسوم التحضيرية خلال عصر النهضة، وتم إنتاج العديد من اللوحات لتزيين الكنائس والقصور والأماكن العامة، وكان الرسام يقوم برسم مفصل للغاية قبل بدء استخدام الألوان. في ذلك الوقت أصبح الفن حرفة يتكسب منها الفنان، سواء بتنفيذ رسوم معينة لأفراد، أو رسوم متقنة للطبع.
في العصور التالية لعصر النهضة، مثل الباروك والروكوكو؛ استمر الرسم أداة للتوثيق واستكشاف الطبيعة وكسب العيش، لكن الفنانين أصبحوا أكثر جرأة وحرية في استخدام الأدوات الفنية، وعمل كل منهم على استكشاف طريقته الخاصة في الرسم، للتعبير بشكل أكبر عن العواطف الإنسانية وحركة الجسم الإنساني، أو حتى من خلال رسمه مشهدا من الطبيعة، وهنا أدرك الفنان أهمية الرسم كمسار حضاري إنساني يتناسب مع السياقين الثقافي والاجتماعي المحيطين به.
بين عامي 1800 و1900 تطورت العديد من الأساليب الفنية المختلفة جنبا إلى جنب، خاصة مع ظهور الأقلام الرصاص لأول مرة، حيث أصبحت الأداة المفضلة لكثير من الفنانين، الذين انفتحوا أكثر على تسجيل مشاهد الحياة اليومية وليس المناظر الطبيعية فقط، مثل الأسواق وسباقات الخيل والمسارح وراقصات الباليه، مع استمرار التدريب الأكاديمي القائم على قواعد عصر النهضة كأساس لتعلم الرسم.
في الربع الأخير من القرن 19 الميلادي، بدأ الفنانون التشكيك في تلك القواعد، واعتبرت المدرسة الانطباعية مدرسة ثورية لأن فنانيها رسموا مباشرة على القماش من دون رسوم تحضيرية، ومن دون اهتمام كبير بالخط كما في عصر النهضة.
الرسم في المدارس الفنية الحديثة
بداية من عام 1900، وبعد اختراع الكاميرا الفوتوغرافية، لم يعد الرسم أداة للتوثيق فقط، لأن الكاميرا كأداة توثيق تعمل بشكل أكثر دقة وسرعة، وبدأ الفن في التحرر تماما من القواعد السابقة، واتسع مفهوم الرسم والفن ليشمل أي شيء وكل شيء تقريبا. وأصبحت الحركات الفنية الحديثة بعيدة عن أفكار التوثيق أو استعمال الفن لأغراض دينية أو تزيينية، واتجه الفنانون إلى استعمال الرسم للتعبير عن أنفسهم، لذلك أصبح الفن أكثر إغراقا في الذاتية بعكس ما كان سابقا.
أدرك الفنانون وعلماء النفس أهمية الرسم كشكل من أشكال التفكير البصري، ووسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار والمخاوف، كما أنه وسيلة صادقة للتواصل وتحسين قدرة الملاحظة البصرية، والتدريب المستمر على الرسم يجعل اليد أداة أكثر تطورا ودقة، ويساعد الإنسان على فهم العلاقات اللونية والنسب والمسافات.
كما اعتبر الرسم رابطا بين جانبي العقل، عن طريق بناء مسارات جديدة في الدماغ بين الإبداع والتفكير المنطقي؛ مما يعزز قدرة العقل على التركيز والتحليل، خاصة مع سرعة الحياة اليومية التي لا تجعلنا نلتفت للتفاصيل الصغيرة في العالم من حولنا.
بالإضافة إلى ذلك، أظهر العلاج بالفن آثارا كبيرة على الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات القلق وفرط الحركة ونقص الانتباه والاكتئاب، عن طريق دمج تقنيات العلاج النفسي السلوكي أو المعرفي مع العملية الإبداعية لتحسين وتعزيز الصحة العقلية.