ما وراء الحروب والاتفاقيات، الانتخابات، والمعاهدات، هناك من يقوم بتحليل ودراسة كل الإشكاليات السياسية وتأطير المناسبات الخيِّرة أو الشريرة دبلوماسياً بعناوين أكاديمية تحلل وتبني قواعد علمية، فتجيب عن الأسئلة الآنية وتستشرف الغد السياسي بتنبؤات ورؤى منهجية.
«نظام التعددية القطبية الفضفاض» كان إحدى الأفكار الواجب طرحها بالتوازي بينما العالم يشهد حالة تحوّل كبرى تشرح عملياً النظرية السياسية التي تميزها تحالفات اليوم ومصالح الدول العظمى التي أصابها الانشطار لتضم أكبر عدد ممكن اقتصادياً ودبلوماسياً، ليكون هذا النظام حاضراً على رأس هرم دولي متعدد الأقطاب، ولتكون الملاحظة الأكثر حضوراً الارتخاء المستمر والمتواصل للقبضة الأمريكية في ظل الانشقاق الاقتصادي والسياسي الواضح ما بين
واشنطن والاتحاد الأوروبي، والظهور اللافت للصين كلاعب قوي ومؤثر في امتلاك كرسي مجاور بين دول القمة دولياً، ولتسجل هلسنكي اليوم تاريخياً درساً في شرح مفردات يكون الجواب فيه كاشفاً عن مسار عالمي جديد لا رجعة فيه، وليصبح واضحاً تهميش دور القارة العجوز والاعتراف بحصرية دور موسكو سواء الآني أو الممتد بما هو أوسع من إحاطته زمنياً، بينما
واشنطن تبرهن أن البنية السياسية العالمية أبرزت العديد من المتغيرات والمتحولات الدولية العابرة للحدود، التي من أهمها انهيار الهيمنة العالمية لأمريكا والتي باتت، ووفقاً للنظريات الأكاديمية السياسية، موجودة بجوار مثيلاتها من الدول التي ظهرت حديثاً وفقاً لهياكل بناء سياسي عالمي، ونظام دولي يسير إلى التشظّي والتفتّت، وينساق باتجاه تحالفات مصالح فضفاضة، حيث علاقات الخصومة المتشكّلة ستتغلب –حسب الدراسات- على علاقات التحالفات في العديد من القضايا، لينتج عنه نظام عالمي جديد، فوضوي ومتناقض التركيب، سريع التقلّبات والصداقات والعداوات، ولقاء هلسنكي أفضل مثال يمكن أن يحاكي ما ينظّره المختصون من دراسات.
حضور الرئيس ترامب «الضعيف»– كما وصفه أغلب السياسيين الأمريكان- في قمة هلسنكي، كان حضور من يعرف قدر نفسه، فهو رغم الحمق والجنون الموصوف بهما، لكنّه ربما بات يعي الحجم الضئيل سياسياً لأمريكا في الساحة العالمية.
أمّا سورية الحاضرة حضوراً استثنائياً في القمة الفنلندية، والأكثر جدلاً وإشكالية، فقد كانت الغائب الحاضر، ونقطة الانطلاق في «ماراثون» الحديث عن التحديات التي تواجه العالم، فقد بات خطيراً انعدام التوازن لآليات الأمن الدولي والاستقرار والأزمات الإقليمية، لكن الأخطر تمدد التهديدات النابعة من الإرهاب والجرائم العابرة للقارات، وهو ما يفرض الاتفاق على تسوية الأزمة في سورية بطرق سياسية، وهذا ما عمل عليه الرئيس بوتين عندما حثّ نظيره الأمريكي على العمل المشترك لتأمين الاستقرار والسلام في سورية، وليخفي ترامب خيبة أمله وفشله في سورية «عالمياً»، ويجتهد اليوم في البحث عن كل حفنة ماء يمكن أن تحفظ وجهه الإمبريالي المهزوم بإصرار خاسر على تطويق هذا الفشل لمنع امتداد ارتداداته إلى ساحات أخرى مازالت مفتوحة المعارك ومجهولة النهايات.
وما تحرّكاته اليوم في ما يتعلّق بسورية المنتصرة في حربها على الإرهاب والالتفات إلى الوراء، إلا تحرّكات المغلوب وأدواته، ومحاولته التستّر على تأمين مرتزقته وإخراجهم بطرق يطمح من خلالها ألا تنكشف أوراقهم وهوياتهم، ويفتضح الدور الأمريكي الحاضر في عملية تمويل الإرهاب والمرتزقة، ليكون الانسحاب من المشهد السوري هو الحركة الأخيرة التي تلعبها واشنطن، بينما سورية تواصل تحقيق النصر، ليتم التحرير الكامل لتراب جغرافيتها وهو الأهم.
بقلم:
محمد البيرق / صحيفة تشرين