كان من اللافت للنظر التزامن بين العدوان الصهيوني على مركز البحوث العلمية في مصياف، والعملية المشتركة لتهريب جماعة محددة “الخوذ البيض” من الجنوب السوري بأمر أمريكي مباشر وتنفيذ “إسرائيلي” ودور لوجستي للأردن، كمحطّة مؤقتة بهدف الانتقال للاستقرار لاحقاً في دول غربية معينة ومعروفة في الآن ذاته بدورها الكبير في سفك الدم السوري.
وإذا كان التزامن يكشف، من جهة أولى، أن “العدوان” يندرج في إطار عملية إلهاء نارية عن أسئلة قضية “التهريب” المنتقاة، إلا أن طبيعة الموقع المستهدف بالاعتداء والغطاء “الإنساني” الذي قُدّم لعملية التهريب يكشفان، من جهة ثانية، عن أمر مشترك بين الجريمتين، فهما معاً عدوان على العقل بيد المخططين والمنفّذين والتابعين أيضاً، ففي مصياف كان القصد، كما في كل عملية مشابهة، اغتيال العقل السوري إما مباشرة، أي قتل العلماء والباحثين الموجودين هناك، كما في حالات معروفة سابقة، أو غير مباشرة عبر تدمير نتاجاتهم البحثية أو تعطيل برامجهم العلمية – وهذا عمل إرهابي بامتياز لأن الإرهاب بالمحصلة النهائية هو فعل قطع لا وصل – وفي الجنوب كان وصف عملية التهريب بأنها “خطوة إنسانية استثنائية” هو أيضاً اعتداء مباشر على العقل، واستخفاف بكل المحطات المماثلة التي أثبتت أن كل اهتمام غربي بالإنسانية ليس إلا غطاء ساتراً لأمر آخر مختلف تمام الاختلاف.
والدليل على صحة ذلك أن العالم، الذي يصفق بعضه اليوم لعملية “الإجلاء الإنسانية”، كان شاهداً منذ فترة قصيرة جداً على مجموعة من السوريين تقف أمام الحدود الأردنية، وتناشد الملك و”النشامى” السماح لهم بعبور الحدود، ولكن كان للملك أذن من طين وأخرى من عجين، وكان العالم شاهداً أيضاً على مجموعة أخرى وقفت على حدود الجولان المحتل تناشد “الديمقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط للعبور إلى هناك، وكان الجواب الوحيد هو الطرد المذّل، والتحذير من الاقتراب من حدود الكيان المزعومة، ما يشير إلى وجود فرق “نوعي” بين مواطنين عاديين لا تنطبق عليهم المعايير الإنسانية الغربية، و”ثروة” لها قيمة مصلحية كبرى هي “الخوذ البيض” تنطبق عليها هذه المعايير، وهذه ازدواجية فاضحة تنفي الدافع الإنساني بالمطلق، خاصة إذا عرفنا أنهم وضعوا في الأردن “في منطقة مغلقة إلى حين إعادة توطينهم”، وبتعبير آخر تمّ “عزلهم” عن بقية اللاجئين العاديين، وتلك مسألة لا تترك الكثير من الأجوبة أمام أي باحث محايد ونزيه.
بهذا المعنى، ولأن اللغة السياسية، كما يقول جورج أورويل: “مصممة لجعل الأكاذيب تبدو صادقة، لكي تضفي مظهر الحصافة على الهراء البحت”، يمكن القول: إن عملية التهريب المشتركة هذه ليست إلا عملية سياسية مصلحية محضة، هدفها حماية النفس من الفضيحة، فيما لو وقع هؤلاء بيد جهة محايدة ستكشف كل أدوارهم القذرة التي قاموا بها لحساب مشغليهم خلال الحرب، وبالتالي يكون حديث “نتنياهو”، الذي تحدث بلسان كل المشاركين في العملية، عن الدوافع الإنسانية مجرد هراء بحت لا أكثر ولا أقل.
بيد أن الاعتداء على العقل لا يتوقف على ما سبق، فأن ترفض أنقرة سيناريو “المصالحات” لإدلب هو أيضاً اعتداء على العقل، وأن تتحدّث صحيفة “يني شفق” المقربة من حزب أردوغان عن مفاوضات تركية روسية لتسليم حلب لأنقرة، فهذا هو الهراء البحت، لكن الاعتداء على العقل والهراء البحت يجتمعان معاً في قول واشنطن إنها تحارب “داعش”، فيما طائراتها لا تفعل شيئاً في الشرق السوري سوى إنقاذ متزعميه، كما يجتمعان في كلام بعض القوى الإقليمية التي ناصبت سورية العداء عن المشاركة في إعادة الإعمار، لكن اجتماعهما هنا يؤكد أن الحرب بشكلها العسكري تحتضر، وأن إعادة الإعمار البشري والمادي هو صبغة الحرب في طورها المقبل.. وذلك هو التحدي الأهم وما يجب الالتفات إليه، وليس كل ذلك الهراء البحت الذي نسمعه هنا وهناك.
بقلم:
أحمد حسن / صحيفة البعث