يحاكي السلوك الأميركي مشهداً مستفزاً يكاد يسري على الجميع، القريب منه ربما أكثر من البعيد، بينما يفتح قرار إدارة ترامب بإعادة فرض العقوبات أو بإعادة تفعيلها -كما يحلو للخطاب الغربي أن يطلق عليه- الشهية للحديث عن المنطق الذي يحكم السياسة الغربية عموماً، والاميركية خصوصاً في مفهوم العقوبات، التي باتت بإجماع الجزء الأكبر من السياسيين وعلى ضوء التجارب التي أفضت إليها أنها سلاح الضعفاء أكثر مما هي تعبير عن أي شيء آخر، رغم ما يجول من تفسيرات متناقضة تشي بأنها جزء من استخدام فائض القوة اقتصادياً وربما سياسياً باعتبارها بوابة مفتوحة على العسكرة.
فالحروب التجارية التي يشهرها ترامب باتت جزءاً لا يتجزأ من مشهد التجاذب في العلاقات الدولية، وأضحت ساطوراً مسلطاً على رقاب الشعوب كما الدول ، وصولاً إلى الترجمة الحرفية لمقولة من ليس معنا فهو عدونا، والتي باتت حال لسان الأوروبيين الحائرين في عودة العقوبات الأميركية والتي يشعرون أنها ليست بعيدة عنهم، وسيطولهم العقاب الأميركي، حيث يجدون أنفسهم مضطرين للدخول في المساومة الرخيصة، إما مجاراة الأميركيين أو التخلي عن مصالحهم في الاتفاق النووي والتحضر لقائمة طويلة من الاحتمالات الخطرة، أقلها انعكاس التداعيات المباشرة وغير المباشرة وسلسلة طويلة من الأزمات البنيوية المزمنة، التي لا تقوى أوروبا على الدخول بمتاهاتها المفتوحة.
أوروبا التي كانت يوماً وراء بدعة العقوبات الدولية، وكانت السباقة تاريخياً إلى استخدامها لأهداف سياسية تكتوي بالإرهاصات الناتجة عنها، وتبحث عن مخارج تبدو مغلقة نتيجة التهور الأميركي كما تراه، وفي بعض الأحيان نزقاً غير مبرر يصل حدود الحماقة، والذي يهدد بفتح جبهات سيكون من الصعب إغلاقها، أو على الأقل مداراة النتائج الكارثية التي ستقود إليها، في وقت لا تخفي أوروبا خشيتها من استغلال أميركا الوضع الأوروبي الذي يواجه أصعب الحقب تاريخياً لجهة التراجع على المسرح العالمي، حيث تعصف الأزمات الداخلية والخارجية بالموقف الأوروبي، والتي تزيد من صعوبة المواجهة المحتملة، وترجح كفة الإذعان الأوروبي في نهاية المطاف!!
أوروبا هذه لا تزال تصرّ على الغرف من القاع ذاته، حين تعيد التلويح بالمنطق نفسه في التعاطي مع قضايا المنطقة، وتحديداً ما يتعلق منها بمنطق العقوبات القسرية والأحادية الجانب وتضيف عليه، وكثيراً ما كانت تجتهد إلى حدّ التهور في سبيل صفقات مدفوعة الأجر، خصوصاً حين يرتبط الأمر بالرغبة في استرضاء الأميركي على حساب العلاقات الدولية وأصول التعامل بين الدول، وتحاول جاهدة استخدامه ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية تحت شعارات كاذبة ومخادعة، باعتبارها تدغدغ أطماعها الاستعمارية البغيضة.
الإرث الاستعماري الأوروبي لا يحضر هنا فحسب، بل يكاد يشمل مختلف الجوانب السياسية التي يُشتمّ منها الهوس بتلك الأطماع، ويبدو أن العدوى الأميركية لاستحضار هذا الإرث أو نقله بالتبعية يثقل على الأوروبيين، وإن كان يأخذ شكل الاستباحة والاستلاب الذي أبقى أوروبا أسيرة هذه التبعية، وربما حانت اللحظة التي تتحضر فيها لدفع الفاتورة المرة نتيجة تراكم الأخطاء السياسية وغير السياسية، وصولاً إلى غياب التأثير واضمحلال الدور الأوروبي الذي كان فاعلاً ومؤثراً في زمن مضى، بات فيه من الصعب تخيُّل عودته إلى سابق عهده، وربما تستحيل مقاربته.
بقلم:
علي قاسم / صحيفة الثورة