قد تمر سنوات وأحداث كثيرة قبل أن تنجلي للعالم حقيقة الأسباب والدوافع العميقة – وربما الشخصية – التي حَدَت بالرئيس الأمريكي دونالد
ترامب لإلغاء اتفاق جماعي وقّعه سلفه – أوباما – بعد طول لأيٍ وتردد، واستغرق التفاوض بشأنه جولات مكوكية طويلة، ورحب به أعضاء منظمة الأمم المتحدة قاطبة، ماعدا السعودية (وجدت نفسها مرغمة في النهاية على إبداء ترحيب مشروط)، و”إسرائيل” التي ناصبته العداء حتى آخر لحظة ولعبت دوراً مركزياً في “إقناع”
ترامب بإلغائه. وقد نفاجأ ذات يوم بأن كل هذا الصلف الأمريكي لم يعدُ كونه مناورة ساذجة ونوعاً من ألعاب الخفة، الغاية منها اختراع “انتصارات”، تسوّق عنوة على أنها “تنازلات” إيرانية، ومن ثم المسارعة إلى تتويج
ترامب “الملك”، الذي أساءت الصحافة ووسائل الإعلام تقدير إمكانياته ومواهبه، ولقي استهجاناً عالمياً لغرائبية مواقفه، ولكنه – حقاً!؟ – الرئيس القوي والقادر، في النهاية، على فرض كلمته وجر الآخرين من ورائه.
ومن الصعب أن يخمّن المراقب من الخارج كيف اختار
ترامب إيران دون غيرها – بالأحرى كيف أخطأ اختيارها! – لمثل هكذا رهان، ومثل هكذا منازلة محفوفة بالمخاطر والارتدادات الخطيرة، فقد يكون ذلك تحت وطأة نزعة اعتباطية ترامبية متأصلة زيّنت له حشر كل قضايا الشرق الأوسط في سلة واحدة، وعلى أمل كسب الرهان من خلال تلك الخلطة السحرية التي اخترعها له السعوديون والإماراتيون، بالتعاون مع اللوبي الصهيوني المؤيد لنتنياهو داخل الإدارة الأمريكية وفي الكونغرس، بحيث يمكن إعادة الجمهورية الإسلامية في إيران إلى القمقم (تغيير السلوك لا تغيير النظام)، كما يمكن ترتيب الأوضاع في كل من العراق وسورية على النحو الذي يجعل من دعم الجماعات الإرهابية في البلدين مغامرة مثمرة تنتهي بإمساك ممالك ومشيخات النفط بمقاليد المشرق العربي بمجمله، وجعله حديقة سياسية واقتصادية تابعة وخلفية، كما يمكن أيضاً تخديم مصالح الوهابية المُحدثة “البن سلمانية” خاصة في هروعها لملاقاة اليمين الحاكم في “إسرائيل” – التي “لاخلافات لنا معها”، كما يقول آل سعود – في إطار تحالف أيديولوجي وسياسي وعسكري إقليمي واحد، على أن ترتفع “صفقة القرن” إلى مستوى الجائزة الكبرى التي ستحقق إجماع الأمريكيين والإسرائيليين والسعوديين والإماراتيين والقطريين، وتخلصهم دفعة واحدة من تحدياتهم التاريخية والاستراتيجية، ولربما ستطوّب المنطقة لنفوذهم وهيمنتهم وعنصريتهم المريضة لعقود طويلة قادمة.
لقد فعلت فلسفة المقايضة والتخادم فعلها في عقلية
ترامب التجارية – كما يبدو – وكانت الأداة الوحيدة التي يمكن عبرها اختراق ضحالته وضيق صبره وأفقه. ولكن دمشق وبغداد حاضرتان امبراطوريتان غارقتان في القدم وأكبر من أن تبتلعهما، أو تطوّعهما، شركات نفطية وعقارية مسماة ممالك، وإيران دولة عظمى إقليمية يستحيل إركاعها في ظل أية موازين قوى، فكيف بما هو قائم حالياً، علاوة على أن البلدان الثلاثة تسير وفق القانون التاريخي الذي يحكم على أنظمة القمع والطغيان والاستبداد والتخلف بالهزيمة التاريخية، فكيف إذا كنا في مواجهة أنظمة شاذة وعفنة متناقضة مع روح العصر والتقدّم، ولاتزال تعيش على أبشع ما في تراث العصور الوسطى من التكفير الطائفي والعبودية الجماعية والتمييز على أساس الطائفة أو الدين أو القومية.
لقد جاء الإعلان عن الرغبة بالاجتماع مع الرئيس روحاني – وفي أي مكان يختاره! – في ظروف التسريبات عن تأجيل “صفقة القرن”، ما يشي بحجم الصفقة الشاملة المعدّة للمنطقة من خلال التحالف الأمريكي-الرجعي العربي-الإسرائيلي، ولقد وجد
ترامب نفسه مضطراً للإعلان عن العقوبات ليكشف أبعاد المأزق الذي حشر نفسه به، والذي لم يترك له أي منفذ للمناورة أو التراجع. ورّط
ترامب إدارته في مواجهة صعبة وعقيمة قد تستنزف مصالح بلاده الاقتصادية وتهدر كرامتها الدبلوماسية؛ ففي سبيل حسم مسألة تطبيق عقوباته أحادية الجانب على الجمهورية الإسلامية، ينبغي عليه أن يختبر أولاً مسألة الزعامة الأمريكية في العالم، وأن يتأكّد من قابلية الاقتصاد العالمي للسير طوع أوامره وتهديداته، وحتى ما إذا كان هذا الاقتصاد قابلاً للإخضاع بفعل إرادة سياسية ما.. أية إرادة حتى ولو كانت وطنية!. أما ما يمكن أن ينجم عن لوائح العقوبات فلن يعدو كونه مزيداً من الانعزالية الأمريكية، وهو فعلاً مشروع
ترامب السياسي، ولكن من المشكوك فيه أن يكون مشروعاً قادراً على انتشال أمريكا من تحدياتها الراهنة والمستقبلية.
لن يستطيع أحد كسر إرادة وتطلعات الشعب الإيراني، وإذا كان
ترامب وجد أمامه اتفاق “خمسة + واحد” فلأن أوباما أدرك هذه الحقيقة، ومعه الدول النووية الأوروبية، في النهاية. لقد عجزت الحروب المتتالية عن إخضاع إيران، والعقوبات أعجز عن تحقيق ذلك!.
بقلم: بسام هاشم / صحيفة البعث