ويرمز "بي إف إيه إس" إلى مركبات "بير وبولي فلنورو ألكيل"، وهي مجموعة من المواد الكيميائية التي تُستخدم على نطاق واسع في مختلف المنتجات الصناعية والاستهلاكية، مثل تجهيزات المطابخ غير اللاصقة، والمعدات الخارجية المقاومة للماء، وتغليف المواد الغذائية، ورغوة مكافحة الحرائق.
وتتمتع تلك المواد بروابط كيميائية قوية تجعلها مقاومة للماء والشحوم، مما أكسبها الحضور الطاغي في كثير من المنتجات، غير أن هذه الميزة سلاح ذو حدين، إذ إنها من ناحية أخرى، تمنح تلك المواد ثباتا شديدا في البيئة ولا تتحلل بسهولة، ويمكنها البقاء في الهواء والماء والتربة والكائنات الحية لفترة طويلة جدا، ولذلك سميت بـ"المواد الكيميائية الأبدية".
وربطت دراسات بين التعرض لبعض تلك المواد، والآثار الصحية الضارة، بما في ذلك مشاكل النمو، واختلال جهاز المناعة، وزيادة خطر الإصابة ببعض أنواع السرطانات، لذلك تُبذل جهود على مستوى العالم للتوصل إلى أدوات لاكتشافها في الماء لمنع إحدى طرق انتقالها إلى الجسم، مسببة هذه الآثار الضارة. ويأتي جهاز الاستشعار الضوئي الذي أُعلن عنه في دورية "أناليتيكال كيمستري" في إطار هذه الجهود.
تحديات خلقت الحاجة لحل جديد
وعلى مدار السنوات الماضية استُخدمت عدة طرق علمية وتحليلية مختلفة لاكتشاف تلك المواد في العينات البيئية، غير أن الطبيعة المعقدة لمواد "بي إف إيه إس" واستخدامها على نطاق واسع، شكّل تحديات في الكشف الدقيق عنها وقياسها كميا.. ومن هذه الطرق:
الطرق التحليلية:
استُخدمت الطرق التحليلية التقليدية مثل كروماتوغرافيا الغاز والكروماتوغرافيا السائلة، غير أن تنوع مواد "بي إف إيه إس" وخصائصها الكيميائية المتباينة، جعل من الصعب تطوير طريقة واحدة يمكنها الاكتشاف بشكل فعال.
التحليل المستهدف:
ركزت بعض المحاولات على مركبات محددة من مواد "بي إف إيه إس"، وغالبا ما كانت تلك الأكثر شهرة أو التي لها استخدامات صناعية معروفة، وقد تجاهل هذا النهج المستهدف الملوثات الناشئة.
وبالإضافة إلى الافتقار لطريقة تحليلية موحدة للقياس، والاهتمام في الرصد بمواد على حساب الأخرى، كانت هناك تحديات تتمثل في أن:
1- الملوثات الأخرى الموجودة في البيئة قد تؤثر في حساسية وانتقائية الأدوات التحليلية، مما يؤدي إلى تحديات في التمييز بين مواد "بي إف إيه إس" والمواد الأخرى.
2- توجد بعض مواد "بي إف إيه إس" بتركيزات منخفضة جدا في البيئة، مما يعوق اكتشافها بالطرق التقليدية.
3- التنوع الواسع لمواد "بي إف إيه إس" يجعل من الصعب الحصول على جميع المعايير المرجعية ذات الصلة بالعمل التحليلي.
4- الطرق الحالية صعبة التنفيذ وتستغرق وقتا طويلا ومكلفة.
الطبيعة المعقدة لمواد "بي إف إيه إس" واستخدامها بشكل واسع أوجد تحديات في الكشف الدقيق عنها وقياسها كميا (شترستوك)
وانطلاقا من هذه التحديات أدرك الفريق البحثي من جامعة برمنغهام البريطانية بالتعاون مع المعهد الاتحادي الألماني لأبحاث واختبار المواد، حاجتهم إلى حل مبتكر يكون سهل التنفيذ، ويستطيع اكتشاف المواد حتى لو كانت بتركيزات منخفضة، ويكون انتقائيا لتلك المواد عن غيرها من الملوثات، وفوق كل ذلك تكون كلفته بسيطة، وهو ما قادهم إلى جهاز الاستشعار الضوئي.
جهاز الاستشعار الضوئي.. كيف يعمل؟
والجهاز الجديد عبارة عن مستشعر ضوئي يصدر ضوءا أحمر عند تعرضه للأشعة فوق البنفسجية، وتشير التغيرات في إشارة التألق المنبعثة من المعدن الموجود بالمستشعر إلى وجود مواد "بي إف إيه إس".
ووفق ما جاء بالدراسة يمكن تبسيط آلية عمل هذا المستشعر كالآتي:
جزيئات الضوء الصغيرة: تخيل أن لدينا جزيئات صغيرة تتوهج عند تسليط الضوء عليها، وتتكون هذه الجزيئات من معدن يسمى الإيريديوم، ولها سلاسل محبة للدهون (سلاسل هيدروكربونية مكونة من 6 و12 ذرة كربون على التوالي) متصلة بها.
السلاسل الخاصة: وهذه السلاسل تشبه مخالب الجزيئات، أي أنها تساعد الجزيئات على تشكيل هياكل محددة.
الكشف عن مواد "بي إف إيه إس": فعندما تضع هذه الجزيئات في الماء وكان به مواد "بي إف إيه إس"، ستتداخل تلك المواد مع الجزيئات ليغير ذلك من طريقة توهجها.
الضوء المتوهج الطويل: فما يميز هذه الجزيئات هو أنها تستمر في التوهج مدة طويلة، ويمكننا قياس مدة توهجها، وأي تغييرات في التوهج تخبرنا بوجود مواد "بي إف أيه إس".
دعم الذهب: فهذه الجزيئات ترتبط بسطح مصنوع من الذهب، مما يساعدها على البقاء ثابتة وعدم فقدان توهجها.
اكتشاف حتى 220 ميكروغراما
يقول أستاذ الكيمياء غير العضوية والفيزياء الضوئية البروفيسور زوي بيكرامينو، في بيان صحفي أصدرته جامعة برمنغهام: إن "المستشعر تمكن من اكتشاف 220 ميكروغراما من مواد بي إف إيه إس لكل لتر من الماء، وهو مناسب لمياه الصرف الصناعي، ومع ذلك هناك حاجة إلى مزيد من التحسين لتعزيز الحساسية للكشف عن مستويات النانوغرام، وخاصة في مياه الشرب".
ويصف بيكرامينو اختراعهم بأنه في غاية الأهمية، مضيفا أن "مواد بي إف إيه إس تُستخدم في البيئات الصناعية بسبب خصائصها المفيدة، على سبيل المثال في الأقمشة المقاومة للبقع، ولكن إذا لم يتم التخلص منها بشكل آمن، فإن هذه المواد الكيميائية تشكل خطرا حقيقيا على الحياة المائية وصحتنا والبيئة الأوسع، هذا النموذج الأولي هو خطوة كبيرة إلى الأمام في إيجاد طريقة فعالة وسريعة ودقيقة للكشف عن هذا التلوث، مما يساعد على حماية عالمنا الطبيعي وربما الحفاظ على مياه الشرب نظيفة".
اختراق ينتظره تحدي التطبيق الموسع
ومن جانبه، أثنى أستاذ العلوم الكيميائية بجامعة ألمنيا المصرية وائل أبو المجد في حديث هاتفي مع "الجزيرة نت"، على نتائج الدراسة التي قدمت حلا لتحديات واجهها المجتمع البحثي لسنوات، ولكنه شدد على أنه يجب وضع هذا الإنجاز في حجمه الطبيعي، وهو أنه "لا يزال في إطار العمل المختبري، ولم يخرج للتطبيق العملي على نطاق واسع".
ويضيف أبو المجد أن هناك ثلاثة أسئلة يجب معالجتها في دراسات لاحقة، حتى يمكن اعتماد هذا المستشعر في البيئة العملية التطبيقية، وهذه الأسئلة هي:
أولا: ما مدى استقرار معدن الإيريديوم المضيء بمرور الوقت، وكيف يصمد أداء المستشعر في ظل الظروف البيئية المختلفة؟
ثانيا: هل يمكن للمستشعر تقديم نتائج موثوق بها باستمرار على مدى فترات طويلة؟
ثالثا: ما مدى جدوى جعل المستشعر محمولا للقياسات في الموقع، خاصة في المواقف التي تتطلب استجابة فورية؟
ويَعِد رئيس قسم الاستشعار الكيميائي والبصري بالمعهد الاتحادي الألماني لأبحاث واختبار المواد كنوت روراك، والباحث المشارك بالدراسة، بمعالجة هذه الأسئلة.
ويقول روراك في البيان الصحفي: "الآن بعد أن أصبح لدينا نموذج أولي لشريحة استشعار، نعتزم تحسينها ودمجها لجعلها محمولة وأكثر حساسية بحيث يمكن استخدامها في موقع الانسكابات، وتحديد مدى وجود هذه المواد الكيميائية في مياه الشرب".
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية