أفرز الوجود العسكري الأميركي الناجم عن غزو العراق وإسقاط نظامه منذ أشهره الأولى، سجالاً عراقياً حوله، وذاك كان نتاجاً طبيعياً لحالة التعقيد الأمني التي نتجت عن هذا الفعل الأخير، والتي تبدت عبر بروز التنظيمات المسلحة المتطرفة، وعبر الفصائل العابرة للحدود، وبعيد القضاء على "جماعة الجهاد في بلاد الرافدين"، أحد أفرع تنظيم "القاعدة"، وعلى زعيمها أبو مصعب الزرقاوي عام 2006، مضت الولايات المتحدة نحو "تجذير" وجودها في العراق، وفي العام 2008 جرى توقيع "الاتفاقية الأمنية" التي صممت لتضفي بعداً جديداً على ذلك الوجود وتحويله من احتلال غير مشروع إلى "قوات دولية" فاعلة، وذات دور، على الأراضي العراقية، وعندما اطمأنت واشنطن إلى سريان الاتفاقية من دون معوقات تذكر كان الظن أن فعل "التجذير" ماضٍ في سياقاته المرجوة منه في ضمان النفوذ الأميركي عبر منظومات "الأمن والحماية" الخاصة التي أنشئت على هامش الاتفاقية، فكان الفعل مقدمة لإعلان انسحاب القوات الأميركية من العراق الذي حصل أواخر العام 2011، والذي تضمن أيضاً "الإبقاء على قوة رمزية قوامها 2500 – 3000 جندي لدواع خاصة".
كشفت أيام خمسة ما بين 6 و10 حزيران 2014، التي شهدت معارك بين القوات العراقية وبين تنظيم "الدولة الإسلامية" انتهت بسيطرة هذي الأخيرة على مدينة الموصل والإعلان عن قيام "دولة الخلافة الإسلامية"، عن بنية عسكرية هشة، بل وعن بنية مجتمعية أقل هشاشة، إذ لطالما أبدت شرائح واسعة من العراقيين عن تأييدها لـ "دولة الخلافة الإسلامية"، والمؤكد أن الفعل كان ناجماً عن التهميش والإقصاء اللذين كانا يغوصان في تلك الشرائح ذاتها، الأمر الذي استدعى عودة "التحالف" الأميركي بزخم أكبر مما كان عليه العام 2011، ومع الإعلان عن القضاء على آخر المعاقل للتنظيم في الباغوز آذار 2019، عاد السجال من جديد، ليتخذ هذه المرة وضعية أشد حدة ما بعد «طوفان الأقصى» التي كانت ذات تأثير مباشر على الوضع الأمني العراقي نتيجة استهداف القواعد الأميركية الموجودة في العراق كإحدى تضاعيف الحرب في غزة.
أجرت بغداد وواشنطن منذ عدة أشهر، بالتزامن مع التوتر القائم في المنطقة وعلى خلفية حرب الإبادة التي يمارسها كيان الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، جولات تفاوض كانت آلياتها ترتكز على وجوب التقليص التدريجي لـ "قوات التحالف" في العراق، وفي منتصف شهر آب المنصرم قالت الخارجية العراقية في بيان لها: إن المباحثات تركزت على تقييم خطر تنظيم داعش بهدف الوصول إلى موعد نهائي لإنهاء المهمة العسكرية لعملية "العزم الصلب"، وهذا الاسم الأخير هو الذي اعتمدته "قوات التحالف" إبان الإعلان عن تأسيسها العام 2014، إلى أن جاء تقرير "رويترز" سابق الذكر، كاشفاً عن التوصل إلى اتفاق لا ينقصه سوى الإعلان عنه.
كانت النظرة الأميركية لتواجد قواتها في العراق تؤكد أن هذا الأخير ذي ارتباط بمعادلات القوة المصلحية في منطقة الشرق الأوسط لأسباب عدة أبرزها الثقل الذي تتمتع به التركيبة العراقية فيما لو تناغمت مكوناتها، ومنها الصدام مع الدور الإيراني الذي راح يبدي نشاطاً متزايداً منذ سقوط بغداد 2003، وما بعد الـ7 من تشرين الأول المنصرم تغيرت تلك النظرة لتحل محلها أخرى ترتبط بالمعادلات التي سوف تفرزها حرب غزة، والتي ستكون شديدة التأثير على موازين القوى القائمة في المنطقة، ولربما كان ذلك هو ما يفسر مدة العامين، التي يحددها الاتفاق الوارد ذكره عبر "رويترز"، لانسحاب القوات الأميركية بشكل تام، فالمقدر أن تكون تلك المدة كافية لتبلور تلك المعادلات التي ستعقب الحرب.
الآن، أي معنى يصبح للوجود العسكري الأميركي في مناطق شرق الفرات السوري بعد انتفائه على الأراضي العراقية التي لطالما شكلت قاعدة لوجستية لا غنى عنها لاستمرار ذلك الوجود؟ ثم ألا يفسر هذا الذي يجري الكشف عنه، والذي يرسم صورة انسحاب أميركا من العراق، مبرراً لما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أيام، وحذر من خلاله سلطات الأمر الواقع القائمة بالجزيرة السورية من أن تكون على موعد مع "المصير الأفغاني"؟
كاتب سوري
المصدر: الوطن